نواصل حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها دعاء الجوشن الكبير، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن احد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا منفس عن المكروبين، يا مفرج عن المغمومين، يا اله الاولين والآخرين).
والآن نبدأ بالقاء الانارة على هذه المفردات، ونعرض لمفردة (يا منفس عن المكروبين). فماذا نستخلص منها؟
الكرب هو الشدة الكبيرة التي يعاني منها الانسان، ومن اوضح مصاديقها: الكرب الذي اصاب ايوب (عليه السلام)، حيث فقد كل شيء واما كلمة (منفس) فمعناها: افساح المجال لازالة ما علق على الشيء، وبذلك تكون عبارة (يا منفس عن المكروبين)، تعني: ازالة الشدة المذكورة من خلال ايجاد المخرج لها وهو: بمثابة التنفس الذي يعني افساح المجال للشيء بعد ان جثم على صدر صاحبه.
بعد ذلك نواجه عبارة (يا مفرج عن المغمومين) وهي عبارة تتجانس مع سابقتها (يا منفس عن المكروبين)، ولكنها تفترق في نمط شدتها. فما هي معالم الافتراق؟
الغم، هو الشدة التي يصعب التصبر حيالها مثل: موت القريب، ولذلك فان ازاحتها تتطلب نمطاً من الخلاص هو: تفريجها، اي: حدوث السعة فيه بحيث يزيح كل ما جثم عليه وبهذا يكون الفارق بين العبارتين هو: افساح المجال لان يتنفس الشخص بعد الضيق في كربه، واتساع المجال لان يتخلص من غمه.
اخيراً تواجهنا عبارة (يا اله الاولين والآخرين)، فماذا نستخلص منها؟
العبارة المتقدمة ختم بها مقطع الدعاء، بيد ان الملاحظ ان هذه العبارة تختلف عن سائر عبارات المقطع من حيث دلالتها، فالمقطع ـ كما لاحظنا ـ ينشطر الى نمطين من الموضوعات، احدهما يتصل بالممارسات العبادية التي تتناجى مع الله تعالى مثل: مناجاة العارفين، والمريدين او المحبين، والآخر يتصل بازالة الشدائد عن العباد، لذلك نتساءل: ما هو السر الكامن الذي يمكن بان نستخلصه من هذه العبارة (يا اله الاولين والآخرين)!
في تصورنا ان الاشارة الى الاولين والآخرين من الناس ترمز الى الخلائق اجمعين، وليس لجيل او زمن دون آخر، وبما ان المناجاة مع الله تعالى من جانب تعني: التواصل مع الله تعالى في الحصول على اللذة المعرفية، وبما ان التخلص من الشدائد ـ من جانب آخر ـ يعني: رحمته تعالى بالآخرين، حينئذ فان تحقيق الاشباع وازاحة الاحباط يظلان هما ما يطمح اليه الانسان في دنياه وآخرته، وهو امر يتجانس مع العطاء المتقدم الذي يمنحه تعالى للناس جميعاً: اولهم وآخرهم: بصفته المعبود الوحيد الذي يتجه اليه الخلق: كما هو واضح.
بعد ذلك نواجه مقطعاً جديداً هو: (اللهم اني اسالك باسمك: يا ربنا، با الهنا، يا سيدنا،...).
ان هذا المقطع من الدعاء يتضمن صياغة منفردة او احادية العبارة، اي: عرض الصفات او المظاهر في صياغة مفردة مقابل المركبة، ففي المقطع الاسبق لاحظنا ان العبارات كانت مركبة، مثل: (يا اله الاولين والآخرين)، اما في المقطع الحالي، فان العبارات مفردة مثل (يا ربنا)، والمهم ان لكل صياغة نكاتها الخاصة، بحيث تتناسب مع طبيعة الموضوع المطروح، فالشدائد مثلاً تتطلب عبارات مركبة مثل (يا مفرج عن المكروبين) لوجود شدة ولوجود ازاحة لها، ولكن عندما نواجه اسماء الله تعالى مثل: الرب، الاله، الملك، كما هو ملاحظ في المقطع الحالي، فان وحدانيته تعالى تتجانس مع تفرد العبارة المهم اننا سنحدثك عن هذا المقطع في لقاءات لاحقة ان شاء الله تعالى..
*******