لا نزال نحدثكم عن الادعية المباركة وما تتضمنه من نكات الدلالة وطرافتها وعمقها وبلاغتها، ومن ذلك دعاء الصباح للأمام علي(ع) أمير البلاغة حيث قدمنا لكم مقاطع متنوعة من الدعاء المذكور، ونواصل تقديم مقاطع جديدة منه، ومن ذلك المقطع القائل (ألفت بقدرتك الفرق، وفلقت بلطفك الفلق، وانرت بكرمك دياجي الغسق ...).
هنا، نلفت نظركم الى ان هذا المقطع من الدعاء يتحدث بوضوح عن الظواهر الابداعية لله تعالى، ولكن الملاحظ ان طابع او سمة (القدرة الالهية) قد خصصها الدعاء لظاهرة (تأليف الفرق) حيث حدثناكم عن المقصود من ان الله تعالى قد الّف بقدرته الفرق .. حدثناكم عن ذلك في لقاء سابق، ولكن ما ينبغي تذكيره هنا هو ان باقي الظواهر الابداعية كالفلق وكالغسق الخ، لم يحدثنا الدعاء عنها من خلال القدرة الالهية بل من خلال القيمة الرحمانية لهذه الظواهر.. فمثلاً نلاحظ ان الدعاء يقرر بان الله تعالى من خلال (اللطف) فلق الفلق، ومن خلال (الكرم) انار الغسق ... ترى ما هي النكات او الاسرار الكامنة وراء هذه الصياغة للموضوعات هذا ما نحاول الحديث عنه ...
لنقرأ اولاً هذه الفقرة "وفلقت بلطفك الفلق" والسؤال هو: ما معنى "فلقت"؟ وما معنى "الفلق"؟ اللغة تقول "فلق" يعني "شق" واما معنى "الفلق" فهو "الصبح" وله معانِ اخرى كالفلق مثلاً ولكن قارئ الدعاء يستخلص بان المقصود هو الصبح بدليل وروده في سياق ما هو طبيعي من الكون كالغسق ونحوه ...
ونتساءل: ماذا يستهدف الدعاء من هذه الفقرة القائلة "وفلقت بلطفك الفلق"؟...
اذا كان معنى "فلق" هو "شق" فهذا يعني ان المقصود من ذلك هو ان الله تعالى شق الصبح، هذا اذا اخذنا "الفلق" بمعنى "الصبح" .. ولكن ماذا يستخلص قارئ الدعاء من عبارة "شق الله تعالى الصبح"؟ الحق ان هذه العبارة لها جانبان الاول هو ايقاعها او تجانس اصواتها، فلفلق هو الصبح ولكن الملاحظ ان الدعاء قد انتخب الفلق بدلاً من الصباح "مع ان الدعاء اساساً هو دعاء الصباح" ولكنه استخدم "الفلق" هنا واستخدم كلمة "الصباح" في مكان آخر، كما لاحظنا ذلك في لقاءات سابقة ...
هنا: لا نستهدف وضع قارئ الدعاء في دوامة البحث عن اسرار البلاغة هنا حيث ان الهدف هو معرفة دلالات الدعاء قبل كل شيء ولكننا اضطررنا الى ملاحظة هذه الجوانب البلاغية لان النص نفسه بلاغي في قمة العبارة البلاغية ...
ولذلك ندعكم الان لنتجه الى الدلالة فحسب ...
الدلالة التي نستخلصها من عبارة "وفلقت بلطفك الفلق" هي ان الله تعالى كشف ظلام الافق بواسطة دخول الصباح، او كشف الظلام بنور الصبح ....
وهنا نكتة عابرة نود لفت نظركم اليها وهي ان استخدام الدعاء لكلمة "فلق" بمعنى "شق" لها ارتباط واضح بطبيعة مجيء الصباح بعد الليل، حيث نعرف جميعاً ان علامة دخول الفجر عبر ظلام الليل هو تبين الخيط الابيض من الخيط الاسود حيث يعترض الافق بياض يتماثل تماماً مع عملية "الشق".
ولكن الاهم من ذلك هو تساؤلنا عن السبب الذي جعل الدعاء يربط بين "اللطف" وبين "مجيء الصبح" فيقول: "وفلقت بلطفك الفلق" بينما لاحظنا الدعاء يقول بالنسبة الى الظواهر الابداعية بانها تعبير عن "قدرة الله تعالى" فلماذا انتخب الدعاء مفهوم "اللطف" وترك مفهوم "القدرة"؟
في تصورنا ان الصبح بما انه انارة لنا حيث جعله الله مبصراً لنبتغي فضلاً من الله تعالى كما هو صريح الآية القرآنية الكريمة: (وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً)، حينئذ فان "الفضل" المذكور يتجانس مع "اللطف" أي ان الله تعالى من "لطفه" سكب علينا "الفضل".
اذن: امكننا ولو عابراً جداً ان نوضح جانباً من الدلالات المرتبطة بفقرة الدعاء الذاهبة الى ان الله تعالى كشف لنا ظلام الليل بواسطة مجيء النهار والاهم هو ان نشكره تعالى على فضله ومن ثم ان نمارس الطاعة له تعالى والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******