نتابع حديثنا عن الادعية المباركة وما تتضمنه من دقائق المعاني فضلاً عن الثروة المعرفية بمبادئ التوحيد ومبادئ النبوة ومبادئ الامامة وسائر المعرفة العقائدية، ومن ذلك ما يتصل بالظواهر الكونية ومنها ظاهرة ابداع الله تعالى لحركة الشمس وانعكاساتها على حركة الليل والنهار حيث تكفل احد ادعية امير المؤمنين(ع) المسمى بدعاء الصباح بمسألة او ظاهرة الصباح بصفته اول النهار واول اليوم الجديد من عمر الانسان وصلته بمهمة الانسان اساساً وهي ممارسة وظيفته العبادية وقد حدثناكم عن مقطع متنوعة من هذا الدعاء بحسب تسلسله ونواصل الان تناولنا لمقطع جديد منه وهو المقطع القائل (يا من قرب من خطرات الظنون وبعد عن لحظات العيون ...)، هذا المقطع مقدمة للحديث عن الصباح ودعاء الانسان وتوسله بالله تعالى بان يفتح لنا الرحمة مع اطلالته أي اطلالة الصباح ولسوف نتحدث عن هذا الجانب ان شاء الله تعالى الا اننا في هذه الفقرة من الدعاء نتناول المقدمة التي تتحدث عن الله تعالى من حيث تصوراتنا او استجاباتنا لله تعالى وهو امر يتطلب مزيد من التوضيح بصفة ان الله تعالى منزه عن مقارنته بمخلوقاته وهو ما عرض له الدعاء قبل هذا المقطع وحدثناكم عنه في لقاء سابق عندما اوضحنا معنى قوله(ع)(يا من دل على ذاته بذاته وتنزه عن مجانسة مخلوقاته ...)، وها هو الدعاء يحدثنا عن كيفية التدليل على ذاته وكيفية عدم مجانسته لمخلوقاته حيث يقول عن الله تعالى بانه (قرب من خطرات الظنون وبعد عن لحظات العيون)، وهذا يعني ان الامام علياً(ع) يقدم لنا جواباً عن المقطع المتقدم الذي ينزه الله تعالى عن مجانسة مخلوقاته، ونعتقد بانكم ستطالبوننا الان بتقديم الاضاءة لهذا الجانب فنقول: ان عدم مجانسة الله تعالى لمخلوقات يعني انه ازليٌّ لم يلد ولم يولد، ولذلك كيف يمكننا تصوره تعالى وهذا هو السؤال ... واما الجواب فهو ما قرره الدعاء عندما قال: (يا من قرب من خطرات الظنون وبعد عن لحظات العيون)، ان الفقرة الاخيرة توضح بجلاء ان الله تعالى لا يرى بالعين أي هو غير حسي غير حادث بل هو ازليٌّ كما كررنا.
ولكن اذا كان شيء كذلك، فكيف نتعامل مع الله تعالى؟ الفقرة الاولى تجيبنا عن السؤال المتقدم ... فماذا تقرر؟
الفقرة تقرر ما يلي (يا من قرب من خطرات الظنون)، ترى ما المقصود من قرب وما المقصود من الخطرات وما المقصود من الظنون؟ بالنسبة الى الخطرات وما تعنيه من الدلالة يظل الامر من الوضوح بمكان وذلك لان الخطرات تعني ما يخطر ويمر على ذهن الانسان من معاني ولكن دون ان يكتسب هذا الخطور الذهني ثباتاً للمعنى بل يظل حائماً حوله ... من هنا قرر الامام علي(ع) من اننا اذا اردنا ان نفكر في الله تعالى يظل المتفكر حائماً على خطرات الذهن لان التفكير المحدود وهو تفكير الانسان لا يمكن ان يتجاوز ما لا حدود له وهو الله تعالى ان عظمته لا حدود لها ورحمته تعالى لا حدود لها وعلمه تعالى لا حدود له وهكذا.
واما ذاته المقدسة فلا يمكن الحديث عنها لاستحالة ذلك .. لكن هذا لا يحتجز الانسان من ان يتصور العظمة والرحمة والعلم في حدود قابلياته ويصل الى اليقين المعرفي بالله تعالى وذلك من خلال فطرته على التوحيد اولاً ومن خلال استدلاله العقلي ثانياً.
اذن: ماذا نستخلص من هاتين العبارتين: (يا من قرب من خطرات الظنون وبعد عن لحظات العيون)، بالنسبة الى "الظنون" نجد ان المصادر اللغوية تشطرها الى قسمين احدهما ان الظن بمعنى العلم والاخر ان الظن بمعنى الاحتمال بين ان السياق الذي ورد في الدعاء يشير الى ما قلناه من ان العملية الذهنية او المهارة العقلية للانسان بصفتها تتعامل مع ما هو محدود من البيئة والوراثة لا يمكنها ان تتجاوز ذلك الى ما هو غير محدود من الظنون بمعنيهما وتكون النتيجة على النحو الآتي: ان الله تعالى من خلال العقل تتمكن من الايمان به وانه تعالى ازلي غير حادث ولا يمكن التعامل الحسي من خلاله للسبب المتقدم..
والمهم بعد ذلك هو ان الدعاء عندما يتحدث بهذه المقدمة عن الله تعالى وابداعه الكوني "ومن ذلك ابداعه للصباح"، انما يربط بين عظمته المشار اليها وبين انعكاساتها على قارئ الدعاء ومنه ما يتصل باطلالة الصباح والتوسل بالله تعالى بان ينشر لنا رحمته مع نشر شعاعه، وهذا يتقادنا الى ان نتوسل به تعالى بان يوفقنا لممارسة وظيفتنا العبادية والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******