كتب إليّ الأخ أحمد السّعدون من الناصرية بالعراق الأبيّ أن أذكره بما يلذ لي من شعر بشار في الأخوّة.
فقلت لهك بشار أستاذ عصره في اللطافة والظرافة والشعر غير مدافع في شيء منها.
وقد أجاد وأحسن فيما طلبت وكلّ شعره رائق فائق، بديع رفيع - إذ قال:
أخوك الذي إن رتبه قال إنّما
أربت وإن عاقبته لان جانبه
إذا كنت في كلّ الأمور معاتباً
أخا لك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحداً أوصل أخاك فإنّه
مقارف ذنب مرّة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى
ظمئت وأيّ الناس تصفو مشاربه
ومعنى رابه أوقعه في الرّيب، وأراب صار ذا ريب.
وسألني الأخ مفيد البزاز من دار السّلام بغداد أن من هو السيد الحميريّ؟
وما مكانته في الشعر؟
وما مذهبه العقيديّ؟
وفي الجواب عن أسئلة الأخ الكريم مفيد قلت: السيد الحميريّ (رحمه الله) هو إسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة بن مفرّغ الحميريّ، وكنيته أبو هاشم، ولد سنة خمس ومئة، وتوفي سنة ثلاث وسبعين ومئة.
مولده نعمان، وهو واد قرب الفرات في الشام، ومنشؤه البصرة، ومماته بغداد.
وهو شاعر فذ حقاً، قال فيه أبو عبيدة: أشعر المحدثين السّيد الحميري وبشار.
وقال فيه أبو الفرج الإصفهانيّ: يقال: إنّ أكثر الناس شعراً في الجاهليّة والإسلام ثلاثة: بشار وأبو العتاهيه والسيّد.
وأكثر شعره في مدح أهل البيت (عليهم السّلام) وذمّ عدوّهم، وقلّما لحق أحد به في الإبداع والوضوح.
أمّا مذهبه العقيديّ، فهو مذهب الإمامية الذي اتخذه بعد لقائه الامام الصادق (عليه السّلام) بمكة في موسم الحج إذ ناظره وألزمه الحجة، فترك مذهبه الأول، وهو الكيسانية القائلة برجعة محمّد بن الحنفيّة، وقال في ذالك:
تجعفرت باسم الله والله أكبر
وأيقنت أنّ الله يعفو ويغفر
ويثبت مهما شاء ربّي بأمره
ويمحو ويقضي في الأمور ويقدر
وبعث إليّ الأخ مرتاض السّعديّ من الحلّة الفيحاء أن لمن هاذا الجمال الممتنع:
سقى جانبي بغداد كلّ غمامة
يحاكي دموع المستهام هموعها؟
قلت لابن عاصمة الشعر الجميل السعدي الكريم: هاذا الحسن الذي سألت عنه من رقراق العذوبة الأخاذ نبع اللطافة والجزالة القاضي الجرجانيّ عليّ بن عبدالعزيز ابن الحسن المولود بجرجان سنة تسعين ومئتين، والمتوفى بالرّي سنة ست وستين وثلاث مئة.
وهو شاعر مطبوع، وناقد عدل، كان له شأن في الفقه والتفسير والتاريخ والنقد والقضاء.
ومن مشاهير تلاميذه إمام البلاغة والنحو العظيم عبد القاهر الجرجانيّ وعاش مقدّماً على كثير من أئمة الأدب والعلم وسادة الشعر.
وبيته المسئول عنه من قصيدة رائقة في الحنين إلى بغداد منها قوله:
أراجعة تلك الليالي كعهدها
إلى الوصل أم لا يرتجى لي رجوعها
وصحبة أحباب لبست لفقدهم
ثياب حداد يستجدّ خليعها
إذا لاح من نحو بغداد بارق
تجافت جفوني واستطير هجوعها
وهاذا هو البيت المسئول عنه وما بعده:
سقى جانبي بغداد كلّ غمامة
يحاكي دموع المستهام هموعها
معاهد من غزلان أنس تحالفت
لواحظها ألاّ يداوى صريعها
يحنّ إليها كلّ قلب كأنّما
يشاد بحبّات القلوب ربيعها
فكلّ ليالي عيشها زمن الصّبا
وكلّ فصول الدّهر فيها ربيعها
ومن الظلم أنظالم أن لا نذكر شيئاً من الآثار الباقية للقاضي الجرجانيّ المبدع في كلّ شيء، فقد ذكر منها تفسير القرآن الكريم، وتهذيب التاريخ.
وبقي بين أيدينا كتابه الرّائع الوساطة بين المتنبيّ وخصومه.
وقد امتاز امتيازاً جليّاً من سابقيه في النقد، إذ رأى الحكم النقديّ الصحيح يتحرّى الإحسان قبل الإساءة مستضيئاً بنظر الإسلام الذي يسطع في الحديث الشريف: كلّ ابن آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون.
*******