إن "الصحيفة السجادية" ليست مجرد مجموعة من الأدعية والمناجاة، بل هي أيضًا كتاب تاريخي واجتماعي وتربوي يروي عمق معاناة المجتمع الشيعي وهمومه ومقاومته في واحدة من أصعب الفترات في تاريخ الإسلام. وقد نطق الإمام السجاد (عليه السلام) بهذه الأدعية في وقت كانت فيه أجواء المدينة المنورة وسائر البلاد الإسلامية مليئة بالحسد والعداء والافتراء والضغوط السياسية والاجتماعية الشديدة؛ بعد واقعة عاشوراء، وتحديدًا بعد سيطرة الأمويين، تعرّض أهل بيت النبي (ص) وأصحابهم المخلصين لأشدّ الهجمات والشبهات.
ومع أن موضوعات هذه الأدعية تتجاوز حدود الزمان والمكان، إلا أنها ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالأحداث الاجتماعية والسياسية في عصر الإمام السجاد (عليه السلام). فبسبب مكانتهم الروحية والصالحة، كان أهل البيت (عليهم السلام) هدفًا للحسد والعنف والإذلال، ولشتى أنواع المؤامرات والإشاعات. إن هذه الأدعية لغةٌ واضحةٌ ومعبرةٌ عن آلام ومعاناة إنسانٍ مؤمنٍ حرٍّ، يقاوم موجة الافتراء والقذف وكراهية من حوله، لكن قلبه معلقٌ بالصبر والتوكل على الله.
نقرأ في جزءٍ من الدعاء الـ 49 للصحيفة السجادية، نقرأ:
"وَكَمْ مِنْ حَاسِدٍ قَدْ شَرِقَ بِي بِغُصَّتِهِ، وَشَجِيَ مِنِّي بِغَيْظِهِ، وَسَلَقَنِي بِحَدِّ لِسَانِهِ، وَوَحَرَنِي بِقَرْفِ عُيُوبِهِ، وَجَعَلَ عِرْضِي غَرَضاً لِمَرَامِيهِ، وَقَلَّدَنِي خِلَالًا لَمْ تَزَلْ فِيهِ، ووَحَرَنِي بِكَيْدِهِ، وَ قَصَدَنِي بِمَكِيدَتِهِ".
عصر ظلم الأمويين وعدائهم
بعد واقعة كربلاء، تعرّض الإمام السجاد (عليه السلام)، لمضايقات أعدائه، وتحديدًا الحكام الأمويين. كان يرى الأمويون في الإمام السجاد (ع) تهديدًا لحكمهم، وسعوا جاهدين لتشويه سمعته بين الناس بنشر الشائعات والاتهام والتشهير به. حتى أن شخصيات مثل هشام بن عبد الملك كانت تُهين الإمام (ع) علنًا وتُنسب إليه صفات باطلة.
كان الحسد على مكانة الإمام السجاد (ع) الروحية وشعبيته بين الناس أساسًا لكثير من هذه العداوات. كما يقول الله تعالى في القرآن الكريم عن جذور الحسد على أوليائه: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِه...﴾ (سورة النساء، الآية ٥٤). وحسب الأحاديث، فإن المقصود بـ "الناس" في هذه الآية هم أهل البيت (عليهم السلام) والأئمة المعصومين (ع)، الذين حسدوهم على ما نالوه من إمامة وعلم وفضل إلهي.
يُظهر هذا التحليل جليًا أن جذور كثير من العداوات والبغضاء التي نشأت تجاه أهل البيت (عليهم السلام) من قِبل الأمويين واليهود، ومن بعدهم العباسيين في تاريخ الإسلام، كان الحسد على كرامتهم ومكانتهم وملكهم وخلافتهم الإلهية؛ لأن الله منحهم نعمة خاصة، كالإمامة والعلم وقيادة الأمة. وقد دفع هذا الوضع المتميز هذه الجماعات، بدلًا من قبول فضائل أهل البيت الإلهية، إلى الحسد في قلوبهم، وسعوا عمليًا إلى حرمانهم من هذه المناصب والامتيازات، والتمسك بمنصب الخلافة والحكم لأنفسهم.
ولذلك شهد تاريخ الإسلام بعد النبي محمد (ص) محاولاتٍ متواصلة للاستيلاء على الخلافة والإمامة وتهميش أهل البيت (ع)؛ فلم يقتصر الأمر على تجاهل حقهم في القيادة الدينية والسياسية، بل سعوا أيضًا، من خلال تشويه سمعتهم وإذلالهم، إلى التقليل من مكانتهم الاجتماعية والروحية، وتحويل ملكيتهم الظاهرة إلى سلطةٍ مباشرة لأنفسهم. ومن ناحيةٍ أخرى، ظل هذا الحسد ومحاولة اغتصاب ممتلكات أهل البيت (ع) ومكانتهم مصدرا للعداء والرفض، بل والعداء العلني لهم ولأتباعهم.
تحلى الإمام السجاد وسائر أهل البيت (عليهم السلام) بأقصى درجات الصبر والأخلاق الإسلامية في مواجهة كل هذا الاضطهاد والعداء؛ فلم يردّ الإمام بقسوة ولا بانتقام، حتى أدعية كهذه التي رفعوها دلت على سموّ روحهم ونظرتهم التوحيدية.
ويقبل الإمام السجاد (ع) في مواجهة الافتراءات والقذف ودسائس أعدائه، على الدعاء والتوكل والخير في وجه الشر، مما أدى في نهاية المطاف إلى ازدياد شعبيته بين الناس وتخليد شخصيته كقدوة إلهية.