سألني الحبيب المفدّى الّسيّد عبد الأعلى الشّريف من مكّة المكرّمة زادها الله عزّا عن قائل هذا العذب الزّلال:
أغيب عنك بودّ لا يغيّره
نأي المحلّ ولا صرفٌ من الزّمن
قلت لحبيبي المفدّى الشريف المكّيّ حفظه الله: هذا العذب الزّلال - كما سّميته- هو لشبيهك في رقّة الحاشية ولطافة الّطبع أبي الفضل العبّاس بن الأحنف الحنفيّ الشاعر الغزل الذّائع الصّيت المتوفّى سنة اثنتين وتسعين ومئة ببغداد، وشعره كلّه جيّدٌ، وهو خال الكاتب الشاعر العذب أيضاً إبراهيم بن العبّاس الصّوليّ رحم الله الجميع، وعفا عنّا وعنهم، وها هو ذا البيت المسئول عن قائله مطلعاً لثلاثة أبيات تليه:
أغيب عنك بودّ لا يغيره
نأي المحلّ ولا صرف من الّزمن
فإن أعش فلعلّ الدّهر يجمعنا
وإن أمت فبطول الهّم والحزن
قد حسّن الحبّ في عينيّ ما صنعت
حتّى أرى حسناً ما ليس بالحسن
تعتلّ بالشغل عنّا لا تكلّمنا
الشّغل للقلب ليس الشّغل للبدن
قال الرواية الزّبير بن بكّار: لا أعلم شيئاً من أمور الدّنيا خيرها وشرّها، إلا وهو يصلح أن يتمثل فيه بنصف هذا البيت الأخير.
ومن طريف أخبار العبّاس بن الأحنف أنّه أنشد الرّشيد قوله الجميل:
طاف الهوى في عباد الله كلّهم
حتّى إذا مرّ بي من بينهم وقفا
فقال له الرشيد: ما الذي رأى فيك، حتّى وقف عليك؟
قال: سألني عن جود أمير المؤمنين، فأخبرته.
فأستحسن الرّشيد جوابه، فوصله صلة حسنة.
كان حبيب بن مسلمة الفهريّ من خواصّ معاوية، وله معه في وقعة صفّين آثار شكرها له.
ولمّا استقرّ الملك لمعاوية سيّر حبيباً في إحدى مهمّاته، فلقيه الإمام الحسن بن عليّ (عليهما السّلام) وهو خارج في مهمّته، فقال له: يا حبيب، ربّ مسير لك في غير طاعة الله!
فقال له حبيب: أمّا إلى أبيك، فلا.
فقال له الحسن (عليه السّلام): بلى والله.
ولقد طاوعت معاوية على دنياه، وسارعت في هواه.
فلئن قام بك في دنياك، فقد قعد بك في دينك.
فليتك إذ أسأت الفعل، أحسنت القول، فتكون كما قال الله (تعالى): «وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا»(التوبة، ۱۰۲).
ولكنّك كما قال الله (تعالى): «كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ» (المطفّفين،۱٤).
وكنية حبيب الفهريّ هذا أبو عبد الرّحمن.
ولاه معاوية ارمينية، فمات بها سنة اثنتين وأربعين ومئة، ولم يبلغ خمسين سنة من العمر.
كان الوزير القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب وزير المعتضد الذي سمّ الشّاعر البارع ابن الروميّ ظلماً قد مات أخوه أبو محمّد الحسن في حياة أبيهما عبيد الله بن سليمان، فقال أبو الحارث النّوفلي هذه الأبيات:
قل لأبي القاسم اطرزّا
قابلك الدّهر بالعجائب
مات لك ابن وكان زيناً
وعاش ذو الشّين والمعايب
حياة هذا كموت هذا
فلست تخلو من المصاب
وعاد أبو الحارث النّوفلي، فقال هذا المعنى في هذه الصورة:
قل لأبي القاسم المرزّا
وناد ياذا المصيبتين
مات لك ابن وكان زيناً
وعاش شين وأيّ شين
حياة هذا كموت هذا
فالطم على الّرأس باليدين
من أروع ما بأيدينا من كنوز البلاغة البالغة قول أميرها الفذّ الإمام عليّ (عليه السّلام) في كرامة العلم: أيّها الناس اعلموا أنّ كمال الدّين طلب العلم والعمل به، وأنّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال. إنّ المال مقسومٌ بينكم، مضمونٌ لكم، قد قسمه عادلٌ بينكم، وضمنه، وسيفي لكم به.
والعلم مخزونٌ عليكم عند أهله، قد أمرتم بطلبه منهم. فاطلبوه، وأعلموا أنّ كثرة المال مفسدة للدّين، مقساة للقلب، وأنّ كثرة العلم والعمل به مصلحة للدّين، وسبب إلى الجنّة. والنفقات تنقص المال، والعلم يزكو على إنفاقه، فإنفاقه بثّه إلى حفظته ورواته.
*******