هتف إليّ العزيز الّسيّد المفترب أبو عليّ الموسويّ سائلاً: لمن هذا البيت:
قد بكى العاذل لي من رحمتي
فبكائي لبكاء العاذل
فقلت في جوابه: هذا البيت للشاعر البارع، والكاتب القادر أبي الهيثم خالد بن يزيد البغداديّ الذي كان من كتّاب الجند في زمن المأمون والمعتصم.
ولبيته هذا حكاية حكاها هو نفسه، قال: وقف عليّ رجل بعد العشاء متلفّع برداء عدنيّ أسود، ومعه غلام يحمل صرّة، فقال لي: أنت خالد؟
قلت: نعم.
قال: أنت الذي تقول:
قد بكى العاذل لي من رحمتي
فبكائي لبكاء العاذل؟
قلت: نعم.
قال: يا غلام ادفع إليه ما معك.
قلت: وما هذا؟
قال: ثلاث مئة دينار.
قلت: والله لا أقبلها، أو اعرفك.
قال: أنا إبراهيم بن المهدي.
قلت أنا الجزائريّ بشير: وإبراهيم هذا هو أخو هارون الرّشيد، بويع له بالخلافة في بغداد، ودعي المبارك، أو المرضيّ، وبقي يدعى أمير المؤمنين، ويخطب له على المنابر في بغداد وما غلب عليه من الكوفة والسّواد سنتين إلاّ خمسة وعشرين يوما، وهزمه عسكر المأمون، فاستخفى ستّ سنوات وأربعة أشهر وعشرة أيّام، خرج بعدها إذ عفا عنه المأمون واستبقاه مكرماً بقيّة حياته.
وكان أسود اللون، ضخم الجثّة، وليس في أبناء الخلفاء أفصح منه لساناً، ولا أجود شعرا، عرف بإجادة الفناء والحذق فيه، وهو شاعر أديب خليع متلاف، مات في سنة أربع وعشرين ومئتين، وصلّى عليه المعتصم، ومن شعره
قد شاب رأسي ورأس الحرص لم يشب
إنّ الحريص على الدّنيا لفي تعب
لو كان يصدقني ذهني بفكرته
ما اشتدّ غمّي على الدّنيا ولا نصبي
أسعى وأجهد فيما لست أدركه
والموت يكدح في زندي وفي عصبي
بالله ربّك كم بيتاً مررت به
قد كان يعمر باللذّات والّطرب
طارت عقاب المنايا في جوانبه
فصار من بعدها للويل والحرب
فاسك عنانك لا تجمع به ظلع
فلا وعيشك ما الأرزاق بالّطلب
فإنّني واجد في الناس واحدة
الرّزق والحمق مقرونان في سبب
وكتب إليّ الأستاذ مرتضى الحسنيّ من سوريا أن لمن هذا المعنى الّطريف؟
والتقينا كما اشتهينا ولاعد
بسوى أنّ ذاك في الأحلام
قلت: هذا المعنى الطريف هو للشريف المرتضى عليّ بن الحسين الموسويّ إمام الفقه والأصول والكلام واللغة والأدب والشّعر والنقد الذي توفّي سنة ستّ وثلاثين وأربع مئة عن إحدى وثمانين سنة تقريباً، وقوله هذا ثاني ثلاثة أبيات جميلة له هي:
ضنّ بالّنزر عنّي إذ أنا يقظان
وأعطى كثيره في المنام
والتقينا كما اشتهينا ولاعيب
سوى أنّ ذاك في الأحلام
وإذا كانت الملاقاة ليلاً
فالليالي خير من الأيّام
وقال القاضي المؤرّخ الأديب الشاعر الناقد شمس الّدين أحمد بن خلّكان (رحمه الله):
وهذا من قول أبي تمّام:
استزارته فكرتي في المنام
فأتاني في خفية واكتتام
يا لها زورة تلذّذت الأرواح
فيها سرّاً من الأجسام
مجلس لم يكن لنا فيه عيب
غير أنّا في دعوه الأحلام
وللشّريف المرتضى أيضاً
ولمّا تفرّقنا كما شاءت النّوى
تبيّن ودّ خالص وتودّد
وهو معنى مستقى من قول علم الشعراء المتنبّي (رحمه الله) في مدح عضد الدّولة في شيراز بقصيدته الكافيّة الشّهيرة:
وفي الأحباب مختصّ بوجد
وآخر يدّعي معه اشتراكا
إذا اشتبهت دموع في خدود
تبيّن من بكى ممّن تباكا
وسألني الأخ محمّد سليمان من الولايات المتّحدة أن لمن هذا البيت؟
شقيت به فما أنا عنه سال
ولا هو إذ شقيت به رحيم
فقلت: هذا البيت الفائض الحلاوة والّطراوة ثالث بيتين مثله في الجمال والملاحة للشاعر المكثر المجيد الأديب البليغ العالم بالقرآن واللغة محمّد بن يحيى بن المبارك بن المغيرة العدويّ المعروف باليزيديّ، وقوله هذا رواه الشاعر البارع دعبل بن عليّ الخزاعيّ (رحمه الله) وهو:
أتظعن والذي تهوى مقيم
لعمرك إنّ ذا خطر عظيم
إذ ما كنت للحدثان عوناً
عليّ مع الزّمان فمن ألوم
شعيت به فما أنا عنه سال
ولا هو إذ شقيت به رحيم
وأبو عبد الله محّمد بن يحيى هذا هو القائل أيضاً:
يا بعيد الدّار موصو
لاً بقلبي ولساني
ربّما باعدك الدّهر
فأدنتك الأماني
وكان يؤدّب المأمون مع أبيه، وثقل سمعه في آخر عمره، فانقطع، فاستحضره المأمون فقال له: لم أرك منذ أيّام؟
فقال: وجدت في سمعي ثقلاً، وأنا أكره أن أتعبك استفهاماً، إذا سمعت عن غير فهم.
فقال: أنت الآن أطيب ما تكون، فما شئت أن نسمعك أسمعناك، وما احتشمناك فيه أسررناه عنك، فأنت غائب شاهد.
وكان لأبيه خمسة بنين، وكلّهم علماء أدباء شعراء رواة لأخبار الناس، ومحّمد هذا أسنّهم وأشعرهم، وبه يكنى أبوه، فيقال: أبو محمّد يحيى بن المبارك اليزيدي.
وسألني الأخ قصيّ رشاد من إربيل بالعراق أن من قال البيت الآتي، وفيم؟
ما ينفع الرّجس من قرب الزّكيّ ولا
على الزّكيّ بقرب الرّجس من ضرر
فقلت: هذا القول الحكيم للّشاعر العذب الإبداع المطبوع على البراعة في التّصوير، أعني دعبل بن عليّ بن رزين بن سليمان الخزاعّي المعروف بالمجاهرة في ولائه لأهل البيت (عليهم السّلام) في أوج الظلم لهم، والعدوان عليهم.
وقوله هذا من قصيدة هجا بها الملك العّباسيّ هارون الملقّب الّرشيد، ومنها:
قبران في طوس خير الناس كلّهم
وقبر شرّهم هذا من العبر
ما ينفع الرّجس من قرب الزّكيّ ولا
على الزّكيّ بقرب الرّجس من ضرر
هيهات كلّ امرىً رهن بما كسبت
له يداه فخذ ما شئت أو فذر
عنى بالقبرين في طوس قبر الإمام الرّضا عليّ بن موسى الكاظم (عليهما السّلام) وقبر هارون الرّشيد.
وجاء في كتاب الأغاني لأبي الفرج الإصفهانيّ ما نصّه: (أخبرني محمّد بن عمران الصّيرفيّ قال: حدّثني العنزيّ قال: حدّثني محمّد بن أيّوب قال: دعبل اسمه محمّد، وكنيته أبو جعفر. ودعبل لقب لقّب به.
وحدّثني بعض شيوخنا عن أبي عمرو الشّيبانيّ قال: الدّعبل البعير المسنّ).
*******