من بديع ما قيل في فراق الكرام ما يحبّون مضطرّين هذا العذب الزّّلال:
سلام على بغداد في كلّ موطن
وحقّ لها منّي سلام مضاعف
فوالله ما فارقتها عن قلىً لها
وإنّي بشطّي جانبيها لعارف
ولكنّها ضاقت عليّ بأسرها
ولم تكن الأرزاق فيها تساعف
وكانت كخلّ كنت أهوى دنوّه
وأخلاقه تنأى به وتخالف
وهذه الأبيات الأربعة السّهلة الممتنعة للقاضي البغدادي الفقيه الأديب الشاعر أبي محمّد عبد الوهّاب بن عليّ بن نصر بن أحمد التّغلبّي نسبا، المالكيّ مذهبا.
قال فيه ابن بسّام في كتابه الذّخيرة في محاسن أهل الجزيرة: وقد ووجدت له شعراً معانيه أجلى من الصّبح، وألفاظه أحلى من الظّفر بالنّجح.
ونبت به بغداد كعادة البلاد، فخلع أهلها، وودّع ماءها وظلّها.
قلت: وإذ شيّعه السادة من أكابرها، والرادة من أصحاب محابرها قال لهم: لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين كلّ غداة وعشيّة، ما عدلت ببلدكم بلوغ أمنيّة. وختم الكلام بما بدأنا به من شعره الذي يعزّ عليّ ألاّ أذكر منه:
أهيم بذكر الشّرق والغرب دائماً
ومالي لا شرق البلاد ولا غرب
ولكنّ أولهاناً نأت وأحبّة
فعدت متى أذكر عهودهم أصب
ولم أنس من ودّعت بالشّطّ سحرة
وقد غرّد الحادون وانتقل الرّكب
أليفان هذا سائر نحو غربة
وهذا معيم سار من صدره القرب
وسألني الأخ أحمد الحسني من سوريا عن هذه الأبيات التي يبتهل بها الناس شرقاً وغربا:
يا من يرى ما في الضّمير ويسمع
أنت المعدّ لكلّ ما يتوقّع
يا من يرجّى للشّدائد كلّها
يا من إليه المشتكى والمفزع
يا من خزائن رزقه في قول كن
أمنن فإنّ الخير عندك أجمع
مالي سوى فقري إليك وسيلة
فبالافتقار إليك فقري أدفع
مالي سوى قرعي لبابك حيلة
فلئن رددت فأيّ باب أقرع
ومن الذي أدعو وأهتف باسمه
إن كان فضلك عن فقيرك يمنع
حاشا لمجدك أن يقنّط عاصياً
الفضل أجزل والمواهب وأوسع
قلت: هذا الابتهال العذب الجميل للسّهيليّ أبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله ابن أحمد بن أصبغ بن حسين الخثعميّ الأندلسيّ.
ونسبته المعروف بها، أي: السّهيليّ هي إلى قرية قرب مالقة المدينة الأندلسيّة الكبيرة، وسمّيت تلك القرية سهيلاً باسم الكوكب المعروف، لأنّه لا يرى في جميع بلاد الأندلس، إلّا من جبل مطلّ عليها.
وتوفّي السّهيليّ (رحمه الله) بمرّاكش سنة إحدى وثمانين وخمس مئة عن عمر ناهز ثلاثاً وسبعين سنة، ومن روائع آثاره الباقية الرّوض الأنف وهو في شرح السّيرة النّبويّة الهادية.
والتعريف والإعلام في ما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام. وكذلك نتائج الفكر.
سألني الأخ الكريم عبد الغني مصطفى من الغربيّة في مصر من القائل؟
تجنّى عليّ الذّنب والذّنب ذنبه
وعاتبني ظلماً وفي شقّه العتب
قلت لحبيبي المفدّى عبد الغنيّ: هذا البيت من ثلاثة أبيات للأمير الكبير الّطّيب الّذكر سيف الدّولة الحمدانّي (رحمه الله) وهو المتوفّى سنة ستّ وخمسين وثلاث مئة عن عمر ناهز ثلاثاً وخمسين سنة من المكارم والمغانم. وتلك الأبيات هي:
تجنّى عليّ الذّنب والذّنب ذنبه
وعاتبني ظلماً وفي شقّه العتب
إذا برم المولى بخدمة عبده
تجنّى له ذنباً وإن لم يكن ذنب
وأعرض لمّا صار قلبي بكفّه
فهلًا جفاني حين كان لي قلب
*******