وسألني الاخ عبد اللطيف الشريف من مكة المكرمة عن هذا البيت:
ما قل مالي الازادني كرماً
حتى يكون برزق الله تعويضي
لمن هوه؟
هاذا البيت ثاني خمسة ابيات في مختار الاغاني للعلامة ابن منظور الافريقي صاحب لسان العرب، وهي للسخي المعطاء المقنع الكندي رحمه الله.
وجرى ذكرها في مجلس عبد الملك بن مروان الذي عرف بالنجل الشديد، اذ قال يوماً: اي الشعراء اشعر؟
مقال له كثير بن هراسة معرضاً بشدة بخله: اشعرهم المقنع الكندي الذي يقول:
اني احرض اهل البخل كلهم
لوكان ينفع اهل البخل تحريضي
ما قل مالي الازاد كرماً
حتى يكون برزق الله تعويضي
والمال يرفع من لولا دراهمه
امى يقلب فينا طرف مخفوض
لن تخرج البيض عفواً من اكفهم
الا على وجع منهم وتحريض
كأنها من جلود الباخلين بها
عند النوائب تحذى بالمقاريض
فقال عبد الملك وقد عرف ما اراد ابن هراسة: الله اصدق من المقنع حيث يقول: «وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا» (الفرقان، ٦۷).
والمقنع الكندي: هو محمد بن ظفر بن عمير، والمقنع لقب غلب عليه، لانه كان اجمل الناس وجهاً، واكملهم خلقا، فلا يكشف القناع عن وجهه، لئلا تصيبه اعين العائنين.
وهو من شعراء العصر الاقوي المقلين، وكان شريف قومه و سيدهم مثل جده وابيه وعاش جواداً سخياً اتلف كل ما ورثه عن ابيه، حتى استعلاه بنو عمه باموالهم وجاههم وعيروه بفقره، فقال:
يعاتبني في الدين قومي وانما
ديوني في اشياء نكسبهم حمداً
وان الذي بيني وبين بني ابي
وبين بني عمي لمختلف جداً
فما امل الحقد القديم عليهم
وليس رئيس القوم من يحمل الحقداً
وليسوا الى نصري سراعاً وان هم
دعوني الى نصر اتيتهم شداً
اذا اكلوا لحمي وفرت لحومهم
وان هدموا مجدي نبيت لهم مجداً
وهتف الي الاخ الكريم صبيح الموسوي من دار السلام بغداد صانها الله عما نزل بها من البلاء عن قول القائل:
كل يقال له قد كان ثم مضى
كأن ما كان من دنياه لم يكن
من قاله؟ وفيمه؟
قلت: جاء في معجم الادباء لياقوت الحموي قول ابي حيان التوحيدي: (لما مات المراغي - وكان قدوة في النحو، وعلماً في الادب كبيراً مع حداثه سنه ورقة حاله).
وان قلت: ما رأيت في الاحداث مثله، كان كذالك - استرجع ابو سعيد السيرافي، واستعبر وانشد:
من عاش لم يخل من هم ومن حزن
بين المصائب من دنياه والمحن
وانما نحن نحن على سفر
فراحل خلف الباقي على الظعن
وكلنا بالردى والموت مرتهن
فما نرى فيهما فكاً لمرتهن
من الذي امن الدنيا فلم تخن
او الذي اغتر بالدنيا فلم يهن
كل يقال له: قد كان ثم مضى
كأن ما كان من دنياه لم يكن
ثم قال: قاموا بنا لتجهيزه وتولية امره، فتبعناه على ذالك، فلما اخرجت جنازته بكى، وانشد:
اساءت بنا الايام ثمت احسنت
وكل من الايام غير بديع
ومازال صرف الدهر مذكان مولما
بتأليف شتى اوبشت جميع
قلت: وهذه الحكاية في كتاب المحاضرات للتوحيدي نفسه.
وبقي ان اقول: اما ابوسعيد السيرافي قائل هذا الشعر الجميل، فهو الحسن بن عبد الله بن المرزبان النحوي اللغوي الاديب العفيف الذي لم ياكل الا من كسب يده، اذ كان ينسخ الكتب بالاجرة، ويعيش منها، وهو من اعلام زمانه، وقد ولي نيابة القضاء ببغداد، وتوفي فيها سنة ثمان وستين وثلاث مئة.
واما المراغي المرثي بهاذه الابيات الحلوه، فهو الشاب النبيه المقتدى به في النحو والادب محمد بن جعفر الذي فاق اقر انه وهو فتي رقيق الحال، وهكذا نوادر الدهر اينما كانوا.
*******