إن الولاة يجب أن يكونوا على مستوى عال من الورع والتقوى والزهد والاخلاص، حتى يكونوا قدوة للناس، وأئمة لهم نحو الهدى والصلاح في الوقت الذي كان أغلب الولاة المعينين سابقاً يفتقدون هذه المواصفات، بل اتصف الكثير منهم بالفسق والجور والتعدي على أموال الناس وأرواحهم.
وكان بعض هؤلاء الولاة ممن له ماض قذر ومشؤوم حيث كانوا أشد الناس عداوة وأذىً لرسول الله صلى الله عليه وآله، ومن نماذج هؤلاء: الحكم بن العاص الذي كان أشد الناس أذى لرسول الله صلى الله عليه وآله حتى نفاه صلى الله عليه وآله هو وولده مروان من المدينة.
ومنهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط والي الكوفة أيام عثمان والذي " كان زانياً شريب خمر، وكان له نديم نصراني "، وصلى بالناس صلاة الصبح أربع ركعات وهو سكران، ومنهم عبدالله بن سعد بن أبي سرح العامري الذي كان كاتب الرسول صلى الله عليه وآله وخانه في كتابته، فطرده الرسول وارتد عن الاسلام وولاه عثمان مصر.
ومنهم معاوية بن أبي سفيان والي الشام وحاكمه بأسره من قبل، وكان يعيش مترفاً منعماً لا يحده شرع ولا يلتزم بدين. أخرج أحمد بن حنبل في مسنده عن عبدالله بن بريدة، قال: دخلت أنا وأبي على معاوية، فأجلسنا على الفراش ثم اتينا بالطعام فأكلنا، ثم اتينا بالشراب ـ الخمور ـ فشرب معاوية ثم ناول أبي، ثم قال ـ والد بريدة ـ ما شربته منذ حرمه رسول الله صلى الله عليه وآله.
ويبدو أن معاوية لم يكن يتحرج من شرب الخمر، حتى أنها كانت تحمل له على الابل تخترق الطرق والاسواق، حتى مرت مجموعة من الابل المحملة بالقرب على الصحابي عبادة بن الصامت، وكان آنذاك في الشام، فسأل: ما هذه ؟ أزيت ؟ قيل: لا بل خمر تباع لفلان ـ معاوية.
فأخذ شفرة من السوق ومزق بها تلك القرب.
وكان معاوية شديد البغض لعلي عليه السلام لأنه قتل أخاه حنظلة من المشركين يوم بدر، وخاله الوليد بن عتبة، ونفراً كثيراً من أقاربه الذين كانوا في جيوش الكافرين من قريش، وكان ذلك أحد الدوافع الاساسية وراء عدائه للامام علي عليه السلام حتى أنه أمر بشتم الإمام من على منابر المساجد وفي كل خطبة جمعة.
لذا فإن الإمام علياً عليه السلام لم يكن أمامه طريق وهو حامل راية الاسلام إلاّ تغيير هؤلاء الولاة وأمثالهم، وتعيين المؤمنين الصالحين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله والسابقين إلى الايمان محلهم، وقد أثار ذلك هؤلاء القوم المتضررين، ووجدوا في معاوية ملجأً لهم، فانضموا إلى لوائه وأعلن معاوية تمرده على قرار الإمام بعزله، ورفض إطاعة الخليفة الحق، وبدأ يعد العدة للوقوف بوجه إمام زمانه ثم أخذ يحشد الجنود ليزحف إلى الكوفة ويثب على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي بايعه من قبل أهل بدر والمهاجرون والانصار، وفي طليعتهم الزبير وطلحة !!
وكان قد اعتزل الناس نفر قليل من المهاجرين والانصار، فأرسل إليهم معاوية يستنصرهم فخذلوه، وردوا طلبه رداً عنيفاً، فكتب إليه محمد بن مسلمة الانصاري: " وأما أنت، فلعمري ما طلبت إلاّ الدنيا، ولا اتبعت إلاّ الهوى، فإن تنصر عثمان ميتاً، فقد خذلته حياً ". كان من أوائل المبايعين لمعاوية بالخلافة عمرو بن العاص الذي طالما حرض على قتل عثمان، وإذا به يقف بين الناس في الشام " يبكي كما تبكي المرأة، ويقول: وا عثماناه، أنعى الحياء والدين، حتى قدم دمشـق، وكان قد علم الذي يكون فعمل عليه"، اتجه إلى معاوية وقال له صراحة السبب الذي يدعوه إلى الوقوف بجانبه وترك جانب علي بن أبي طالب، قال له بعد أن ذكره بسابقة علي عليه السلام في الاسلام، وفضله وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله: " إنما أردنا هذه الدنيا ". وقد أعطاه معاوية دنياه جزاء موقفه معه.
وبعد أن تم لعلي عليه السلام النصر في البصرة عاد بجيشه إلى الكـوفة، فعزز الجيش وعزم على التوجه إلى الشام لتصفية المعارضة الباغية التي يقودها معاوية بن أبي سفيان هناك. سار الإمام علي عليه السلام على رأس جيشه، غير أن أنباء مسير الإمام عليه السلام نحو الشام قد بلغت القاسطين هناك، فقرروا ملاقاة الزحف الاسلامي؛ فتلاقى الجيشان عند نهر الفرات في صفين.
وبدأ الإمام عليه السلام يبذل مساعيه لاصلاح الموقف بالوسائل السلمية، فأرسل وفداً ثلاثياً إلى معاوية، يدعوه إلى تقوى الله والحفاظ على وحدة الصف والدخول في إجماع الامة " اذهبوا إلى هذا الرجل ـ معاوية ـ وادعوه إلى الله تعالى، وإلى الطاعة والجماعة، لعل الله تعالى أن يهديه، ويلتئم شمل هذه الامة ". والتقى الوفد بقائد البغاة، وأبلغوه بنوايا الإمام عليه السلام ووضعوه أمام الله تعالى وحذروه مغبة ما يقدم عليه، غير أن معاوية أبدى إصراراً، وقد ختم رده على الوفد: " انصرفوا عني فليس عندي إلاّ السيف ".
على أن الموقف الاموي ذاك لم يصرف الإمام عليه السلام عن التسلح بالصبر والأناة ولم يثر فيه روح التعجيل بالمواجهة الصارمة حقناً للدماء وحفاظاً على نفوس الامة. بيد أن الموقف الانساني الذي التزمه الإمام عليه السلام لم يزد القوى الباغية إلاّ إصراراً، فعملوا من جانبهم على الحيلولة دون حصول جيش الإمام عليه السلام على الماء، حيث سبق أن تحرك فيلق لهم واتخذ مواقعه عند ماء الفرات ليمنع جند الإمام من الماء. وبالنظر لأهمية الماء في الاستراتيجية العسكرية ولعدم توفر مصدر آخر لجيش الإمام غير الفرات، فإن الإمام عليه السلام قد التزم الأناة أيضاً في معالجة الموقف. فأرسل رسولاً إلى معاوية ليبلغه: " ان الذي جئنا له غير الماء، ولو سبقناك إليه لم نمنعك عنه ".
فرد عليهم معاوية بقوله: " لا والله ولا قطرة حتى تموت ظمأ "!!
الأمر الذي اضطر الإمام عليه السلام إلى استعمال العنف في الحصول على الماء لجيشه، حيث لا بديل للعنف. وهكذا حرك الإمام عليه السلام فرقة من جيشه لانهاء الحصار المضروب عليهم، فانهزم فيلق معاوية شر هزيمة. وبعد أن صار الماء في نطاق نفوذ جيش الإمام عليه السلام أذن للباغين بالتزود منه متى شاؤوا، مجسداً بذلك بنداً من أخلاق الاسلام العظيمة في هذا المضمار.
فأعظم بعلي من محارب نبيل، وأكرم به من صاحب قلب كبير، وحيث أن هم الإمام عليه السلام أن يحقن دماء المسلمين ويصونهم من التمزق، ويدرأ التصدع عن صفهم، فقد طلب من معاوية أن ينازله إلى ميدان القتال فيتقاتلا دون الناس لكي تكون إمامة الامة لمن يغلب: " يا معاوية ! علام يقتتل الناس؟ ابرز إلي ودع الناس، فيكون الأمر لمن غلب ".
إلا أن معاوية قد رفض خوفاً من بطش الإمام عليه السلام، وعلى الرغم من أن الجيش الاموي قد بدأ القتال من جانبه، فإن الإمام عليه السلام قد التزم بضبط النفس كذلك وحاول أن يحصر القتال في حدود المبارزة المحدودة. ولما لم تلق محاولات الإمام عليه السلام لرأب الصدع ـ الذي خلفه معاوية في صف الامة ـ استجابة، تفجر الموقف بحرب واسعة النطاق استمرت اسبوعين دون هوادة.
وقد لاحت تباشـير النصر لمعسكر الإمام عليه السلام وأوشكت القوى الباغيـة على الانهزام، فدبروا (خدعة المصاحف) فرفعوها على رؤوس الرماح والسيوف، مما نجم عن تلك الخطة الماكرة تغير جوهري في الموقف العام. ولقد كان لرفع المصاحف من قبل معسكر معاوية صدى في معسكر الإمام عليه السلام؛ إذ سرعان ما سارت كثرة كاثرة من جيشـه مطالبة بإيقاف القتال، فكثر اللغط بين الصفوف وآثر الآلاف ترك الحرب.
ومع أن الإمام عليه السلام تصدى لكشف خلفيات رفع المصاحف واستعمل كل وسائله الاقناعية في البرهنة على كونها خدعة يراد بها عرقلة تحقيق النصر الذي بات وشيكاً لجيش الإمام عليه السلام، إلاّ أن المطالبين بإيقاف القتال لم يستجيبوا لنداءاته المتكررة في هذا المضمار، ولعل بعضهم استعمل لغة التهديد للامام عليه السلام.
واضطروه أن يبعث الأشعث بن قيس إلى معاوية للتعرف إلى ما يريد من وراء رفعه للمصاحف، فعاد يحمل رغبة معاوية في التحكيم، ثم تلا ذلك الفصل الثاني من المأساة، فاختارت الغوغاء أبا موسى الأشعري لتمثيل معسكر الإمام عليه السلام بينما اختار معاوية ابن العاص، على أن الإمام عليه السلام قد رفض فكرة تمثيل الاشـعري لمعسكره باعتبار أن الاشعري كان معتزلاً للامام عليه السلام، ولم يكن يرى في الإمام أهلاً لتولي الخلافة بعد عثمان ـ هو وآخرون ممن اعتزلوا الإمام عليه السلام ـ وكان يخذل الناس عن نصرة الإمام، مما حمل الإمام على عزله من ولاية الكوفة.
وقد رجح الإمام عليه السلام أن يكون الممثل لمعسكره في التحكيم عبدالله بن عباس، غير أن الغـوغاء أصروا على اختيار أبي موسى الاشـعري على الرغم من تأكيد الإمام على ضعفه ووهن رأيه إضافة إلى مرتكزاته الفكرية وموقفه من حكومة الإمام عليه السلام. وها هو الإمام عليه السلام يخاطب المخدوعين بقوله: "قد عصيتموني في أول الأمر ـ يشير إلى قبول التحكيم وإيقاف القتال ـ فلا تعصوني الآن، لا أرى أن تولوا أبا موسى الحكومة فإنه يضعف عن عمرو ومكائده ".
الاّ أنهم أصروا على اختيار الاشعري. ومن هنا فإن الباحث البصير لا يمكن أن يركن إلى الاعتقاد بأن تلك الامور قد جرت بشكل عفوي أبداً، فإن سير الاحداث لا يدل على ذلك، إذ أن رفع المصاحف كان قد جرى بتوقيت وتنسيق بين معاوية وحركة موالية له في جيش الإمام عليه السلام لا بد أن يكون له اتصال معها.
فما أن ارتفعت المصاحف حتى استجاب اولئك لايقاف القتال مستفيدين من سأم الناس من القـتال، فوسعوا قاعدتهم في صفوف معسـكر الإمام عليه السلام وفرضوا عليه التحكيم، ثم فرضوا ممثل معسكره في التحكيم فيما بعد.
وهكذا فلا نعتقد بحال أن لا تكون حركة التمرد في جيش الإمام عليه السلام بذلك الشكل الذي ذكره المؤرخون لا تعتمد على تخطيط أموي مسبق أبداً. وقد جاءت نتائج التحكيم ـ كما توقع الإمام عليه السلام ـ لصالح البغاة في الشام؛ حيث بدأ الأمر يستتب لمعاوية شيئاً فشيئاً.
مجريات التحكيم
على أثر البلبلة التي أثارتها في صفوف جيش الإمام عليه السلام عملية رفع المصاحف الخمسمائة من قبل الجيش الاموي، وما نجم عنها من تصدع شديد في الجبهة العراقية التي يقودها الإمام علي عليه السلام، وبروز القوى المتسترة بالاستقامة في جيش الإمام عليه السلام وضغطها باتجاه فرض القبول بالأمر الواقع على الإمام عليه السلام، اضطر أمير المؤمنين عليه السلام للاستجابة لامر التحكيم بين الجبهتين.
فاختار أهل الشام عمرو بن العاص، وفيه ما فيه من مزايا الذكاء والمكر والخديعة وحب الدنيا وهو (ليس من الله في شيء) على حد تعبير الإمام علي عليه السلام.
أما الجبهة العراقية، فقد اختارت أبا موسى الأشعري بتأثير الاغبياء وأصحاب المصالح من جيش الإمام علي عليه السلام، وكان أبو موسى رجلاً كليل الحد قليل الذكاء فضلاً عن كونه ممن اعتزل علياً عليه السلام في حربه لأعدائه.
وتشير بعض الروايات إلى أن التمزق في جيش الإمام عليه السلام بلغ ذروته حتى هدده بعض المتنفذين من جنده أن يفعلوا به ما فعلوا بعثمان أو يدفعوه إلى معاوية.
وعند اجتماع الحكمين في دومة الجندل تحاور ابن العاص وأبو موسى الاشعري في عدد من المسائل تتجه جميعاً باتجاه الانسب بولاية أمر المسلمين !!
وقد ذكر ابن العاص مزايا لمعاوية بن أبي سفيان ونوه لابي موسى إن اختار معاوية لولاية أمر الناس سيكافأ مكافأةً لا نظير لها، غير أن أبا موسى فهم القصد من إيراد ابن العاص لموضوع المكافأة فرفض أبو موسى ذلك وأعلن انه لا يرتشي في دين الله وحكمه، فلما يئس ابن العاص من إقناع الاشعري بتلك الفكرة استغفله بخطوة جديدة حيث عرض عليه فكرة خلع الإمام علي عليه السلام ومعاوية بن أبي سفيان معاً، فلما استحسن أبو موسى تلك الفكرة عرض عليه ابن العاص أن يبدأ بخلع صاحبه وانه لا يستحسن أن يتقدم على صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك. فتقدم أبو موسى وخلع علياً عليه السلام من ولاية أمر المسلمين كما خلع معاوية معه، اما ابن العاص، فقد أعلن موافقته على خلع علي عليه السلام وتثبيت صاحبه معاوية.
وهكذا غدر عمرو بن العاص بالأشـعري، فما كان من الأشـعري إلاّ أن قنعه بالسوط لما رأى من سوء فعله وغدره.
وهكذا استغفل أبو موسى الأشعري رغم تحذير عبدالله بن عباس له من غدر ابن العاص.
وبعد أن عاد الوفدان، سلم ابن العاص على معاوية بالخلافة ولم يسلم عليه بمثلها قبل ذلك وكان ذلك عام (37 هـ ).
أما أمير المؤمنين عليه السلام فقد رأى أن خديعة ابن العاص، وغفلة أبي موسى الأشعري، قد سببتا انتهاء التحكيم بطريقة غير صحيحة ولا سليمة، حيث كان الخداع وعدم الجدية واضحاً من ابن العاص ـ كما رأينا ـ؛ لذا فقد دعا الإمام علي عليه السلام إلى استئناف الحرب مجدداً وأصدر بياناً إلى الامة جاء فيه: " أيها الناس قد كنت أمرتكم بأمر في هذه الحكومة فخالفتموني وعصيتموني ولعمري إن المعصية تورث الندم فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن:
أمرتكم أمري بمنعرج اللوى *** فلم تستبينوا الرشد إلاّ ضحى الغد
ألا إن هذين الحكمـين قد نبذا كتاب الله وراء ظهورهما فأماتا ما أحيى القرآن وأحييا ما أمات، واتبع كل واحد منهما هواه بغير هدى من الله؛ فحكما بغير بينة ولا سنة ماضية وكلاهما لم يرشدا فبرئا من الله ورسوله وصالح المؤمنين، فاستعدوا للجهاد وتأهبوا للمسير وأصبحوا في مواقفكم ". إلاّ أن الإمام عليه السلام رغم اصراره على الحرب، فقد رأى من الضروري ان يطوق فتنة الخوارج أولاً.
معركة النهروان
بعد واقعة التحكيم عاد الإمام عليه السلام بجيشه إلى الكوفة، ففوجئ بخروج طائفة من جيشه يبلغ أربعة آلاف، معلنة تمردها على الإمام عليه السلام فلم تدخل معه الكوفة، وإنما سلكت سبيلها إلى حروراء، فاتخذت مواقعها هناك. والجدير ذكره أن الفئة التي خرجت على الإمام عليه السلام كان قوامها من الفئات التي أرغمته على التحكيم في حرب صفين.
فعند تمرد تلك الفئة وخروجها من جيش الإمام عليه السلام أعلنت مبررات خروجها تحت شعار: " لا حكم إلاّ لله، لا نرضى بأن تحكم الرجال في دين الله، قد أمضى الله حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يدخلوا معنا في حكمنا عليهم، وقد كانت منا خطيئة وزلة حين رضينا بالحكمين، وقد تبنا إلى ربنا، ورجعنا عن ذلك، فارجع ـ يقصدون الإمام عليه السلام ـ كما رجعنا، وإلاّ فنحن منك براء ". بيد أن الإمام عليه السلام أوضح لهم حينئذ أن الخلق الاسلامي يقتضي الوفاء بالعهـد ـ الهدنة لمدة عام ـ الذي ابرم بين المعسكرين قائلاً: " ويحكم، بعد الرضى والعهد والميثاق أرجع ؟ ".
أوليس الله يقول: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون ) ". إلاّ أن المعارضة المارقة لم تصغ إلى توجيهات الإمام عليه السلام واستمروا في غيهم، وتعاظم خطرهم بعد انضمام أعداد جديدة لمعسكرهم، وراحوا يعلنون القول بشرك المنتمين إلى معسكر الإمام عليه السلام ـ بالاضافة للامام ـ ورأوا استباحة دمائهم.
ولقد كان الإمام عليه السلام عازماً على عدم التعرض لهم ابتداءً ليمنحهم فرصة التفكير جدياً بما أقدمـوا عليه، عسى أن يعـودوا إلى الرأي السـديد، ولكي يتفـرغ كلياً لاستئناف القتال مع البغاة في الشام، بعد فشل التحكيم بعد اللقاء الثاني بين الحكمين، حيث تمت خديعة عمرو بن العاص لابي موسى الاشعري التي أدت إلى عدم تحقيق التحكيم.
غير أنهم بدأوا يشكلون خطراً حقيقياً على دولة الإمام عليه السلام من الداخل، وبدأ خطرهم يتعاظم فقتـلوا بعض الأبرياء، وهددوا الآمنين، فقتلوا الصحابي الجليل عبدالله بن خباب وبقروا بطن زوجته وهي حامل مقرب دون مبرر، وقتلوا نسوة من طي. فلما بلغ أمرهم أمير المؤمنين عليه السلام أرسل إليهم الحارث بن مرة العبدي، ليتعرف إلى حقيقة الموقف، غير أنهم قتلوه كذلك. فلما علم الإمام عليه السلام بالأمر كر راجعاً من الانبار ـ حيث كان قد اتخذها مركزاً لتجميع قواته المتجهة نحو الشام ـ وعندما اقتربت قواته من المارقين بذل مساعيه من أجل اصلاح الموقف دون إراقة للدماء، فبعث إليهم أن يرسلوا إليه قتلة المؤمنين: عبدالله ابن خباب والحارث العبدي وغيرهما وهو يكف عنهم، ولكنهم أجابوه: انهم كلهم قتلوه.
وبعث الإمام عليه السلام إليهم الصحابي الجليل قيس بن سعد فوعظهم، وحذرهم مغبة موقفـهم الاحمق، وأهاب بهم للرجوع عما يرون من جـواز سـفك دماء المسلمين وتكفيرهم دون وجه حق.
وتابع الإمام عليه السلام موقفه الانساني الرشـيد، فأرسل إليهم أبا أيوب الانصاري (رض) وبعد أن وعظهم، رفع رايةً ونادى: من جاء هذه الراية ـ ممن لم يقتل ـ فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة أو المدائن فهو آمن لا حاجة لنا به بعد أن نصيب قتلة إخواننا. وقد نجحت المحاولة إلى حد كبير حيث تفرقوا شيئاً بعد شيء حتى انخفض عددهم إلى أربعة آلاف، إذ كان آخر عدد لهم اثني عشر ألفاً. وقد بدأ الباقون منهم بالهجوم من جانبهم على جيش الإمام عليه السلام فأمر أصحابه بالكف عنهم حتى يبدأوا بالقتال.
فلما بدأ الخوارج القتال، طوقتهم قوات الإمام عليه السلام وتحقق الظفر لراية الحق. وهكذا قضى الإمام عليه السلام في حرب النهروان على حركة الذين سبق لرسول الله صلى الله عليه وآله أن سماهم بالمارقين حين أشار إليهم في حديث رواه أبو سعيد الخدري قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إن قوماً
يخرجون، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ".