ووصفه بعض المعاصرين له فقال: إنه كان معتدل القامة اسمر اللون رقيق البشرة له خال، ضامر الكشح، حسن الصوت مطرق الرأس. ذكاؤه المبكر : وكان عليه السلام في طفولته آية من آيات الذكاء حتى أن جابر ابن عبد الله الانصاري على شيخوخته كان يأتيه فيجلس بين يديه فيعلمه...
وقد بهر جابر من سعة علوم الإمام ومعارفه وطفق يقول:«يا باقر لقد اُوتيت الحكم صبياً». وقد عرف الصحابة ما يتمتع به الإمام منذ نعومة أظفاره من سعة الفضل والعلم الغزير فكانوا يرجعون إليه في المسائل التي لا يهتدون إليها ويقول المؤرخون ان رجلاً سأل عبد الله بن عمر عن مسألة فلم يقف على جوابها فقال للرجل: اذهب إلى ذلك الغلام ـ وأشار الى الإمام الباقر ـ فاسأله، وأعلمني بما يجيبك فبادر نحوه وسأله فأجابه عليه السلام عن مسألته وخف الى ابن عمر فاخبره بجواب الإمام، وراح ابن عمر يبدي اعجابه بالإمام قائلاً: «انهم أهل بيت مفهّمون».
لقد خص الله أئمة أهل البيت عليهم السلام بالعلم والفضل، وزوّدهم بما زوّد أنبياءه ورسله من الفهم والحكمة حتّى أنه لم يخف عليهم جواب مسألة تعرض على أحد منهم، ويقول المؤرخون ان الإمام كان عمره تسع سنين وقد سئل عن أدق المسائل فأجاب عنها. وبدت على ملامح الإمام عليه السلام هيبة الأنبياء ووقارهم، فما جلس معه أحد إلا هابه واكبره وقد تشرف قتادة وهو فقيه أهل البصرة بمقابلته فاضطرب قلبه من هيبته وأخذ يقول له:«لقد جلست بين يدي الفقهاء وأمام ابن عباس فما اضطرب قلبي من أي أحد منهم مثل ما اضطرب قلبي منك».
فضائل الامام
لقد توفرت في شخصية الإمام أبي جعفر عليه السلام جميع الصفات الكريمة التي أهّلته لزعامة هذه الأمة.
حيث تميّز هذا الإمام العظيم بمواهبه الروحية والعقلية العظيمة وفضائله النفسية والأخلاقية السامية ممّا جعل صورته صورة متميّزة من بين العظماء والمصلحين، كما تميّز بحسبه الوضّاح، بكل ما يمكن أن يسمو به هذا الانسان.
ولقد احتاط النبي صلى الله عليه وآله كأشد ما يكون الاحتياط في شأن أمته، ولم يرض أن تكون في ذيل قافلة الأمم والشعوب، فقد أراد لها العزّة والكرامة، وأراد أن تكون خير أمة أخرجت للناس، فأولى مسألة الخلافة والامامة المزيد من اهتمامه، ونادى بها اكثر من أية قضية اُخرى من القضايا الدينية لأ نّها القاعدة الصلبة لتطور أية اُمة في مجالاتها الفكرية والاجتماعية والسياسية، وقد خصّ بها الأئمة الطاهرين من أهل بيته الذين لم يخضعوا في أي حال من الأحوال لأية نزعة مادية، وإنما آثروا طاعة الله ومصلحة الاُمة على كل شيء.
وكان الإمام محمّد بن علي الباقر عليه السلام جامعاً للكمالات الانسانية في سيرته وسلوكه، فكان أهلاً للإمامة الكبرى بعد أبيه زين العابدين.
وما دوّنته كتب التاريخ من فضائله الجمّة هي غيض من فيض، ونشير إلى شيء يسير منها تباعاً:
حلمه
كان الحلم من أبرز صفات الإمام أبي جعفر عليه السلام فقد أجمع المؤرخون على أنه لم يسيء الى من ظلمه واعتدى عليه، وانما كان يقابله بالبر والمعروف، ويعامله بالصفح والاحسان، وقد رووا صوراً كثيرة عن عظيم حلمه، كان منها:
1 ـ إن رجلاً كتابياً هاجم الإمام عليه السلام واعتدى عليه، وخاطبه بمرّ القول:
« أنت بقر ! »
فلطف به الإمام، وقابله ببسمات طافحة بالمروءة قائلاً:
« لا أنا باقر».
وراح الرجل الكتابي يهاجم الإمام قائلاً :
« أنت ابن الطبّاخة ! »
فتبسّم الإمام، ولم يثره هذا الاعتداء بل قال له:
« ذاك حرفتها».
ولم ينته الكتابي عن غيّه، وإنما راح يهاجم الإمام قائلاً:
« أنت ابن السوداء الزنجية البذية! »
ولم يغضب الإمام عليه السلام ، وإنما قابله باللطف قائلاً :
« إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك».
وبهت الكتابي، وانبهر من أخلاق الإمام عليه السلام التي ضارعت أخلاق الأنبياء. فأعلن إسلامه واختار طريق الحق.
2 ـ ومن تلك الصور الرائعة المدهشة من حلمه: أن شامياً كان يختلف إلى مجلسه، ويستمع إلى محاضراته، وقد أعجب بها، فأقبل يشتدّ نحو الإمام وقال له: يا محمّد إنما أغشى مجلسك لا حبّاً مني إليك، ولا أقول: إن أحداً أبغض إليَّ منكم أهل البيت، واعلم أن طاعة الله، وطاعة أمير المؤمنين في بغضكم، ولكني أراك رجلاً فصيحاً لك أدب وحسن لفظ، فإنّما اختلف إليك لحسن أدبك !! .
ونظر إليه الإمام عليه السلام بعطف وحنان، وأخذ يغدق عليه ببرّه ومعروفه حتى تنبّه الرجل وتبين له الحق، وانتقل من البغض الى الولاء للإمام عليه السلام ، وظلّ ملازماً له حتى حضرته الوفاة فأوصى أن يصلي عليه.
وحاكى الإمام الباقر عليه السلام بهذه الأخلاق الرفيعة جدّه الرسول صلى الله عليه وآله الذي استطاع بسموّ أخلاقه أن يؤلّف بين القلوب، ويوحّد بين المشاعر والعواطف ويجمع الناس على كلمة التوحيد بعد ما كانوا فرقاً وأحزاباً.
صبره
لقد كان الصبر من الصفات الذاتية للأئمة الطاهرين من أهل البيت عليهم السلام فقد صبروا على مكاره الدهر، ونوائب الأيام، وصبروا على تجرّع الخطوب التي تعجز عن حملها الجبال، فقد استقبل الإمام الحسين عليه السلام على صعيد كربلاء أمواجاً من المحن الشاقة التي تذهل كل كائن حي، مترنّماً بقوله عليه السلام : «صبراً على قضائك يا رب، لا معبود سواك». وصبر الإمام الباقر عليه السلام كآبائه على تحمل المحن والخطوب. وإليك بعض تلك المحن :
1 ـ انتقاص السلطة لآبائه الطاهرين، وإعلان سبّهم على المنابر والمآذن، وهو عليه السلاميسمع ذلك، ولا يتمكن أن ينبس ببنت شفة فصبر وكظم غيظه، وأوكل الأمر الى الله الحاكم بين عباده بالحق.
2 ـ ومن بين المحن الشاقة التي صبر عليها التنكيل الهائل بشيعة أهل البيت عليهم السلام وملاحقتهم تحت كل حجر ومدر وقتلهم بأيدي الجلادين من عملاء السلطة الاموية، وهو لا يتمكن أن يحرك ساكناً، وقد فرضت عليه السلطة الرقابة الشديدة، ورفضت كل طلب له في شأن شيعته.
3 ـ وروى المؤرخون عن عظيم صبره انه كان جالساً مع أصحابه إذ سمع صيحة عالية في داره، فأسرع اليه بعض مواليه فأسرّ إليه بشيء فقال عليه السلام :
«الحمد لله على ما أعطى، وله ما أخذ، إنْهَهُم عن البكاء، وخذوا في جهازه، واطلبوا السكينة، وقولوا لها: لا ضير عليك أنت حرة لوجه الله لما تداخلك من الروع...».
ورجع إلى حديثه، فتهيّب القوم سؤاله، ثم أقبل غلامه فقال له: قد جهّزناه، فأمر أصحابه بالقيام معه للصلاة على ولده ودفنه، وأخبر أصحابه بشأنه فقال لهم: إنه قد سقط من جارية كانت تحمله فمات.
4 ـ وروي أيضاً: أنه كان للإمام عليه السلام ولد وكان أثيراً عنده فمرض فخشي على الإمام لشدة حبه له، وتوفي الولد فسكن صبر الإمام، فقيل له: خشينا عليك يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله، فأجاب وهو مليُّ بالاطمئنان والرضا بقضاء الله قائلاً:«إنّا ندعو الله فيما يحب فإذا وقع ما نكره لم نخالف الله فيما يحب».
لقد تسلّح الإمام عليه السلام بالصبر أمام نوائب الدنيا وقابل كوارث الدهر بإرادة صلبة، وإيمان راسخ، وتحمّل الخطوب في غير ضجر ولا سأم محتسباً في ذلك الأجر عند الله تعالى.
كرمه وسخاؤه
الكرم من أوضح الفضائل والمكارم لأئمة أهل البيت عليهم السلام فقد بسطوا أيديهم بسخاء نادر الى الفقراء والسائلين، وفيهم يقول الشاعر:
لو كان يوجد عرف مجد قبلهم
لوجدته منهم على أميال
إن جئتهم أبصرت بين بيوتهم
كرماً يقيك مواقف التسآل
نور النبوة والمكارم فيهم
متوقد في الشيب والاطفال
لقد فطر الإمام محمّد الباقرعليه السلام على حب الخير وصلة الناس وإدخال السرور عليهم.
أـ اكرامه الفقراء : ومن معالي أخلاقه أنه كان يبجّل الفقراء، ويرفع من شأنهم لئلا يرى عليهم ذلّ الحاجة، ويقول المؤرخون: انه عهد لأهله إذا قصدهم سائل أن لا يقولوا له: يا سائل خذ هذا، وإنما يقولون له: يا عبد الله بورك فيك وقال: سمّوهم بأحسن أسمائهم.
ب ـ عتقه العبيد : وكان الإمام الباقرعليه السلام شغوفاً بعتق العبيد، وإنقاذهم من رقّ العبودية، فقد أعتق أهل بيت بلغوا أحد عشر مملوكاً وكان عنده ستون مملوكاً فأعتق ثلثهم عند موته.
ج ـ صلته لأصحابه : وكان أحب شيء إلى الإمام عليه السلام في هذه الدنيا صلته لإخوانه فكان لا يمل من صلتهم وصلة قاصديه وراجيه ومؤمّليه، وقد عهد لابنه الإمام الصادق عليه السلام أن ينفق من بعده على أصحابه وتلاميذه ليتفرّغوا الى نشر العلم وإذاعته بين الناس.
د ـ صدقاته على فقراء المدينة : وكان الإمام عليه السلام كثير البر والمعروف على فقراء يثرب، وقد اُحصيت صدقاته عليهم فبلغت ثمانية الآف دينار. وكان يتصدق عليهم في كل يوم جمعة بدينار ويقول: «الصدقة يوم الجمعة تضاعف الفضل على غيره من الأيام».
وذكر المؤرخون: انه كان أقلّ أهل بيته مالاً وأعظمهم مؤونة، ومع ذلك كان يجود بما عنده لإنعاش الفقراء والمحرومين. وقد نقل الرواة بوادر كثيرة من هذا الجود وإليك نماذج منها:
1 ـ وكان عليه السلام يحبو قوماً يغشون مجلسه من المائة الى الألف، وكان يحبّ مجالستهم، منهم عمرو بن دينار، وعبد الله بن عبيد. وكان يحمل اليهم الصلة والكسوة، ويقول: هيّـأناها لكم من أوّل السنة.
2 ـ روت مولاته سلمى فقالت: كان يدخل عليه إخوانه فلا يخرجون من عنده حتى يطعمهم الطعام الطيب، ويلبسهم الثياب الحسنة، ويهب لهم الدراهم، وقد عذلته سلمى عن ذلك فقال لها: يا سلمى ما يؤمل في الدنيا بعد المعارف والاخوان.. وكان يقول: «ما حسّنت الدنيا إلاّ صلة الاخوان والمعارف».
عبادته
كان الإمام ابو جعفر الباقر عليه السلام من أئمة المتقين في الإسلام، فقد عرف الله معرفة استوعبت دخائل نفسه، فأقبل على ربه بقلب منيب، وأخلص في طاعته كأعظم ما يكون الاخلاص. أما مظاهر عبادته فيمكن الإشارة الى بعضها كما يلي:
أ ـ خشوعه في صلاته : فقد عرف عنه أنه كان إذا أقبل على الصلاة اصفرّ لونه خوفاً من الله وخشية منه، ولا غرو في ذلك فقد عرف عظمة الله تعالى، الذي فطر الكون ووهب الحياة، فعبده عبادة المتقين المنيبين.
ب ـ كثرة صلاته : وكان كثير الصلاة حتى كان يصلي في اليوم والليلة مائة وخمسين ركعة ولم تشغله شؤونه العلمية ومرجعيته العامة للاُمة عن كثرة الصلاة، التي كانت أعزّ شيء عنده; لأنها الصلة والرباط الوثيق بينه وبين الله تعالى.
حجه
وكان الإمام أبو جعفر عليه السلام اذا حجّ البيت الحرام انقطع الى الله وأناب اليه وظهرت عليه آثار الخشوع والطاعة، وقد قال مولاه أفلح: حججت مع أبي جعفر محمد الباقر فلما دخل الى المسجد رفع صوته بالبكاء فقلت له: «بأبي أنت وأمي إن الناس ينتظرونك فلو خفضت صوتك قليلاً».
فلم يعتن الإمام وراح يقول له: «ويحك يا أفلح إني أرفع صوتي بالبكاء لعلّ الله ينظر إليّ برحمة فأفوز بها غداً».
ثم إنه طاف بالبيت، وجاء حتى ركع خلف المقام، فلما فرغ وإذا بموضع سجوده قد ابتلّ من دموع عينيه.
وحج عليه السلام مرة وقد احتفّ به الحجيج، وازدحموا عليه وهم يستفتونه عن مناسكهم ويسألونه عن أمور دينهم، والإمام يجيبهم. وبهر الناس من سعة علومه حتّى أخذ بعضهم يسأل بعضاً عنه فانبرى اليهم واحد من أصحابه فعرّفه قائلاً :
«ألا إنّ هذا باقر علم الرسل، وهذا مبيّن السبل، وهذا خير من رسخ في أصلاب أصحاب السفينة، هذا ابن فاطمة الغرّاء العذراء الزهراء، هذا بقية الله في أرضه، هذا ناموس الدهر، هذا ابن محمّد وخديجة وعلي وفاطمة، هذا منار الدين القائمة».
ذكره لله تعالى
لقد كان دائم الذكر لله تعالى، وكان لسانه يلهج بذكر الله في أكثر أوقاته، فكان يمشي ويذكر الله، ويحدّث القوم وما يشغله ذلك عن ذكره تعالى. وكان يجمع ولده ويأمرهم بذكر الله حتى تطلع الشمس، كما كان يأمرهم بقراءة القرآن، ومن كان لا يقرأ منهم كان يأمره بذكر الله تعالى.
زهده في الدنيا
وزهد الإمام أبو جعفر عليه السلام في جميع مباهج الحياة وأعرض عن زينتها فلم يتخذ الرياش في داره، وإنما كان يفرش في مجلسه حصيراً.
لقد نظر الى الحياة بعمق وتبصر في جميع شؤونها فزهد في ملاذّها، واتّجه نحو الله تعالى بقلب منيب.
فعن جابر بن يزيد الجعفي: قال لي محمد بن علي عليه السلام: «يا جابر إني لمحزون، وإني لمشتغل القلب».
فأنبرى اليه جابر قائلاً : «ما حزنك؟ وما شغل قلبك؟».
فأجابه عليه السلام قائلاً: «يا جابر إنه من دخل قلبه صافي دين الله عزّ وجلّ شغله عمّا سواه. يا جابر ما الدنيا؟ وما عسى أن تكون؟ هل هي إلا مركب ركبته؟ أو ثوب لبسته؟ أو امرأة أصبتها؟!».
وأثرت عنه كلمات كثيرة في الحث على الزهد، والإقبال على الله تعالى، والتحذير من غرور الدنيا وآثامها.
وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض مظاهر شخصيّته المشرقة.