ولذلك، فإنَّ أكثر ما جاءنا من تراث أهل البيت (ع) هو ما جاءنا عن الإمامين الباقر والصَّادق (ع)، لأنَّ الظروف السياسية التي كانت تحيط بالمسلمين، كانت تسمح لهما بأن يبلّغا الناس ما يملكونه من علم رسول الله (ص).
وينقل تاريخه أنَّه عندما كان يجلس في المسجد، وكان المسجد هو المدرسة الإسلاميَّة التي يجلس فيها العلماء من كلّ الاتجاهات والمذاهب، فإنَّ العلماء كانوا يتصاغرون أمامه، حتى يُخيَّل إليك أنهم في موقع التلاميذ له وليسوا في موقع الأنداد.
وقد كان الإمام الباقر (ع) منفتحاً على الأمَّة كلها، ولذلك كان يأتيه من هو على مذهبه ومن هو على مذهب آخر، وكان يعطي كل واحد منهم من علمه، وكان المسلمون يلتقون عليه، ولا يجدون في اختلافهم في بعض الخطوط المذهبيَّة عنه، أيّ حرج في أن يلتقوا به ويستمعوا إليه ويتلمّذوا عليه. وينقل التاريخ أنَّ هناك الكثيرين من علماء المسلمين من غير الشيعة ومن مثقَّفيهم ومفكّريهم تتلمذوا على الإمام الباقر (ع).
وكان (ع) يعيش مع الناس كأحدهم، ليس هناك حاجز بينه وبينهم، كان يأتي إليه الصَّغير والكبير، فكان يجلس إليهم، كما كان رسول الله (ص) يجلس إلى أصحابه والنَّاس كافة، حتى قيل فيه: "كان فينا كأحدنا"، وكان يتواضع للصَّغير والكبير، وهكذا كان الأئمَّة من أهل البيت (ع)، لم تدفعهم هذه المرتبة العالية عند الله وعند الناس إلى أن ينفصلوا عن الناس.
ولو درسنا تراث الإمام الباقر (ع)، لرأيناه يجيب عن المسائل الصغيرة والكبيرة، أسوةً بجدّه رسول الله (ص) والأئمَّة من أهل البيت (ع)، بحيث كان الرسول (ص) وأئمّة أهل البيت (ع) يجيبون الناس عن كلّ سؤال، لأنَّ من يسألك، يملك علامة استفهام لا بدَّ أن تزيلها له. ولذلك، فإن اقتداء العلماء بأهل البيت (ع) يفرض عليهم أن يتواضعوا للنَّاس، لأنَّه ليس هناك إنسان أكبر من أن يبلّغ الناس ويستجيب لأسئلتهم وعلامات استفهامهم الصغيرة والكبيرة.
وكان الإمام الباقر (ع) يخرج في أكثر الأوقات حراً إلى مزرعة له ليشتغل فيها، وقد رآه أحد الناس في المدينة، وهو من الأشخاص الذين يمثِّلون موقعاً اجتماعيّاً، وهو "محمد بن المنكدر"، قال: "خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارّة، فلقيت محمَّد بن عليّ... فقلت في نفسي: شيخ من شيوخ قريش في هذه السَّاعة على هذه الحال في طلب الدنيا، أشهد لأعظنَّه، فدنوت منه... فقلت: أصلحك الله، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال؟ قال: لو جاءني، والله، الموت وأنا في هذه الحال، جاءني وأنا في طاعةٍ من طاعات الله تعالى، أكفّ بها نفسي عنك وعن النَّاس، وإنما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصيةٍ من معاصي الله. فقلت: يرحمك الله، أردت أن أعظك فوعظتني"1.
وهذا هو الفهم الإسلامي الرائع لطاعة الله، لأنَّ مسألة طاعة الله ليست مجرّد صلاة أو صوم أو حجّ فقط، بل أن تمارس مسؤوليَّاتك في الحياة، لتبذل جهدك في سبيل أن تحفظ ماء وجهك عن النَّاس، فإنَّك بذلك من العابدين لله حتى وأنت في مواقع العمل.
وكان الإمام الباقر(ع) يتحدث عن بعض القضايا الأساسيَّة، ليغيّر الفهم الموجود عند بعض الناس، فكان يتحدَّث عن هؤلاء الذين يذهبون إلى الحجّ لمرّات عديدة، ولكن إذا طلبت منه أن يعول عائلة فقيرة أو يسدّ حاجتهم، فإنه ليس مستعداً أن يفعل ذلك، لأنَّه يعتبر أن التقرّب إلى الله هو بالحجّ، يقول (ع): "لأن أعول أهل بيت من المسلمين، أسدّ جوعتهم، وأكسو عورتهم، وأكفّ وجوههم عن النَّاس، أحبُّ اليّ من أن أحجَّ حجّةً وحجّة وحجّة ومثلها ومثلها (حتّى بلغ عشراً)، ومثلها ومثلها (حتى بلغ السبعين)"2.
ومن خلال هذا، نفهم أنَّ الإسلام أولى عناية خاصة للمسألة الاجتماعيَّة، وجعل رعاية الناس الذين لا يجدون العيش الكريم أفضل من العبادات المستحبَّة، وليس معنى ذلك أن لا يحجّ الإنسان حجَّة ثانية إذا كان قادراً، بل أن يجمع بين الحجّ المستحبّ وكفالة الأيتام والمعوقين ورعاية الفقراء.
ومن الأمور التي ينبغي أن تلحظ، إخراج الحقوق الشرعية قبل الحجّ، وأن تعطى في موقعها الصَّحيح، لتساهم في حلّ مشاكل النَّاس الذين يعيشون تحت ضغط الأوضاع الاجتماعيَّة.
*من خطبة جمعة للسيد محمد حسين فضل الله، بتاريخ: 1 رجب 1424هـ/ الموافق: / ٢٩/٨/٢٠٠٣م.
-----------------------------
[1]بحار الأنوار، العلَّامة المجلسي، ج100، ص 11.
[2]بحار الأنوار، ج71، ص 329.