يتساءل كثيرون، ونحن لسنا من بينهم، عن أسبابِ سد الإدارة الأمريكيّة الحاليّة أُذنيها أمام الدعوات العالميّة المُتصاعدة، والصّادرة عن جهات أمميّة ودوليّة عديدة، تُطالبها بـ"تعليق" العُقوبات الاقتصاديّة التي تَفرِضها على إيران بسبب تفاقم الأضرار النّاجمة عن انتشار فيروس "الكورونا" في أوساط الشّعب الإيراني، ممّا أدّى إلى وفاة 2300 شخصًا، وإصابة 32 ألفًا آخرين حتى الآن.
صحيفة "نيويورك تايمز" أعفتنا اليوم من الإجابة عندما كشفت في تقريرٍ لها عن وجود مُخطّط امريكي لتنفيذ عمليّة عسكريّة دمويّة وشيكة في العِراق ضِد فصائل الحشد الشعبي، لاستِفزاز طِهران، وجرّها إلى مُواجهةٍ عسكريّة وهي في موقفٍ ضعيفٍ لانشِغالها بأزمة الكورونا.
وأكّدت الصحيفة أنّ وزارة الدفاع (البنتاغون) أمرت قادتها العسكريين الكِبار بوضع تفاصيل المُخطّط الذي يتضمّن إرسال آلاف الجُنود الأمريكيين المُعزّزين بمعدّات عسكريّة ثقيلة إلى القواعد الأمريكيّة في العِراق والمِنطقة.
***
الرئيس ترامب الذي فوّض وزير دفاعه مارك إسبر، وقادة البنتاغون بالثّأر "عسكريًّا" لمقتل جنديين أمريكيين وبريطاني، وإصابة عشرة آخرين في هُجومٍ شنّته جماعة عراقيّة "مجهولة" على قاعدة التاجي شمال بغداد قبل أسبوعين، يعيش هذه الأيّام أسوأ أوقاته، نظرًا لانهِيار الاقتصاد الأمريكي، وانكشاف هشاشة النّظام الصحّي لبلاده، بفعل انتشار فيروس كورونا بصُورةٍ جعلت الولايات المتحدة تسبق الصين وإيطاليا وتحتل المركز الأوّل عالميًّا، بأكثر من 120 الف إصابة، وإعلان حالة الطّوارئ في 11 ولاية، وإعلانها ولايات منكوبة، من بينها نيويورك، وقد يُحاول الخُروج من هذا المأزق "الشّخصي" بالبحث عن "انتصارٍ ما" ضِد إيران، سواءً في حربٍ بالإنابة على أرض العِراق، أو حرب بالأصالة على أرضها.
كتائب "حزب الله" العِراقيّة المُتّهمة أمريكيًّا بقصف عدّة قواعد عسكريّة علاوةً على السّفارة الأمريكيّة في المِنطقة الخضراء في بغداد، هي الهدف الأكبر، وكان متحدّث باسمها حذّر في بيانٍ رسميّ قبل أيّام معدودة من مُخطّط "انقلاب عسكريّ" أمريكيّ في العِراق، بالتّعاون مع جهاز أمني داخلي (لم يُسمُه) يشمل إنزالًا جويًّا، على مواقع للجيش وقواعد "للحشد الشعبي" وتوعّد البيان بالرّد على الهُجوم، بقصف القواعد الأمريكيّة دون هوادة.
تحالف أمريكا في العِراق في حالة تأهّب، ونجح "أنصارها" في خلق حالةٍ من الفوضى السياسيّة، بإحباطهم لكُل جُهود خُصومهم، حُلفاء إيران، بتنصيب رئيس وزراء عِراقي جديد خلفًا للسيّد عادل عبد المهدي المُستقيل، ومنع تحقيق أغلبيّة في البرلمان تمنح الثّقة بإثنين من المُرشّحين حتى الآن، من قبل الكُتلة الأكبر، ويضم هذا التّحالف قيادات كرديّة وسنيّة وشيعيّة عربيّة عِراقيّة.
القِيادة العسكريّة الأمريكيّة عزّزت قواعدها في العِراق بمنظومات صواريخ "باتريوت" بعد القصف الإيراني لقاعدة عين الأسد في الأنبار، وقاعدة "K1" في كركوك، تَحسُّبًا لعمليّات عسكريّة للحشد الشعبي الذي يملك صواريخ كروز وطائرات مسيّرة، انتقامًا وثأرًا لمقتل القائدين قاسم سليماني، رئيس فليق القدس، وأبو مهدي المهندس، نائب رئيس الحشد الشعبي قُرب مطار بغداد في كانون أوّل (يناير) الماضي.
مايك بومبيو، وزير الخارجيّة، ومارك إسبر، وزير الدفاع، اللّذان يُعتبران من أكثر المُحرِّضين على شنّ حربٍ ضِد إيران يُريدان إشعال فتيلها في أقرب وقتٍ مُمكنٍ، ويعتقدان أنّ فيروس كورونا أضعف القِيادة الإيرانيّة، وحقّق لهما فُرصةً ذهبيّةً للانقِضاض والإجهاز عليها، ويُراهنان على أنّ زيادة تدهور الأوضاع المعيشيّة فيها، بسبب الاثنين أيّ الكورونا والعُقوبات، قد يُؤدِّي إلى ثورةٍ شعبيّةٍ ضِد النظام الإيراني، ولهذا يتبنّيان موقف الرئيس ترامب، ويُعارضان أيّ رفع وتعليق للعُقوبات استجابةً لنِداء أنطونيو غوتيريش، أمين عام الأمم المتحدة، وثماني دول أخرى، من بينها الصين وروسيا صدَر الأسبوع الماضي.
أمريكا هُزِمَت بالعِراق بشكلٍ مُهين، وخسرت أكثر من ستّة ترليونات دولار و3500 قتيل، و33 ألف جريح، بفعل المُقاومة الباسِلة لاحتلالها من قبل الشعب العِراقي، ولا تستطيع بلع هذه الهزيمة، خاصّةً في ظِل صُعود "التنّين" الصيني، وقُرب نجاحه في إطاحتها من فوق عرشها كأكبر قوّة عُظمى في العام الذي تربّعت عليه مُنذ نهاية الحرب العالميّة الثّانية عام 1945.
***
الكورونا هزمت ترامب، وفضحت هشاشة إدارته، والبُنى التحتيّة الصحيّة والاقتصاديّة لإمبراطوريّته وبات يُحاول بائسًا رشوة أطبّاء العالم وممرّضيه بدعوتهم للهجرة إلى أمريكا، ومنحهم الإقامة والجنسيّة، وقبلها سرقة إنجاز شركة أدوية ألمانيّة المُتَمثِّل في لُقاح ضِد هذا الفيروس القاتل، ولهذا يتصرّف هذه الأيّام مِثل النمر المُثخن الجِراح وقد يُحاول الضّرب دون وعي، ومن شدّة الألم في جميع الاتّجاهات.
المُقاومة التي هزمت جورج بوش الابن في العِراق، وأجبرت خلَفه باراك أوباما على الانسِحاب ذليلًا، ستَهزِم ترامب وستُسقِط أحلامه في الفوز بولايةٍ ثانية، فنحنُ نعرف الشّعب العِراقي العظيم جيّدًا... والأيّام بيننا.
عبد الباري عطوان