وها هي أنجبت عباقرة الادب والفكر ويبرز من بينهم ابن سينا والفردوسي، والخواجة نصير الدين الطوسي مروراً بالرازي، وابو ريحان البيروني لتفتخر بفحولة الشعراء كالسعدي وحافظ الشيرازي واميركبير، وكلٌ منهم قدّم للبشرية نصيبهم من العلم والمعرفة على طبق من ذهب.
وبعد نشأة الحكومات والامبراطوريات العظمى في العالم، دعت الضرورة للاهتمام بالثقافة والعلم والادب.
ان الساسانيين ورثوا ثقافة وحضارة الاشكانيين من جهة كما ورثوا حضارات العهود السابقة (الميديون، ثم الاخمينيون والسلوقيون (نسبة الى سلوقس الاول)، كما كانت تحمل شيئاً مما دخلها من حواضر أخرى كاليونان (الاغريق) والصين والهند والأرمن والروم وغيرها وواصلت الثقافة القائمة في فترة الحكم الساساني مسيرتها حتى بعد الفتح الاسلامي لإيران ودخول العرب هذه البلاد.
وشهد العصر الساساني فضلاً عن الفتوحات التي حققوها في الحروب المتتالية تعدما وتطوراً ملحوظا في مختلف العلوم والمعارف. في الحقيقة، كانت الثقافة والحضارة الايرانية تتصدر أرقى الحضارات وثقافات الشعوب في آسيا، كما كانت الكتب الفهلوية واليونانية متوفرة في المكتبات او المعابد.
كان الساسانيون في بادئ الأمر يكتبون بالخطوط الثلاثة المنتشرة آنذاك هي اليونانية والأشكانية والساسانية، وكان الخط الساساني الرائج المعروف بالخط الفارسي الأوسط او الخط الفهلوي الساساني المنتشر آنذاك، صعب القراءة والكتابة. يذكر أنه وكان هذا الخط له شبيه بالخط الرائج في فترة الاشكانيين ولهذا السبب يدعى بالفهلوي الاشكاني كما انهما ذات اصل واحد.
ان اللغة الساسانية تعدّ في الحقيقة منشأ اللغة الفارسية الحالية؛ ونشهد في أواخر العهد الساساني خاصة اهتماماً كبيراً بالعلوم والمعارف، حيث تم تأليف وترجمة كتب مختلفة من اللغات اليونانية والسانسكريتية والصينية وغيرها الى الساسانية.
تولى خسرو الأول، المعروف بأنوشيروان (ومعناه بالفارسية الروح الخالدة)، العرش الملكي عام 531 للميلاد وكان وزيره بزرجمهر الحكيم (بوذرجمهر) الذي عرف بالذكاء والفطنة والعلم. هذا العصر هو العصر الذهبي والتطور في حضارة وثقافة ايران القديمة، حيث تم في هذه الفترة إنشاء جامعة "جنديسابور" التي كانت من احدى مراكز التعليم والأبحاث آنذاك.
جدير بالاشارة الى أن جنديسابور مدينة واقعة في قلب خوزستان؛ هذه المدينة التي بناها الملك الساساني شابور الاول تحدّها من الشرق مدينة سوس ومن الجنوب الشرقي مدينة دزفول ومن الشمال الغربي مدينة سوستر.
جامعة جنديسابور كانت تضم أقساماً مختلفة، حيث يقوم فيها عدد كبير من العلماء والأطباء بالتدريس والطب والتحقيق. واضافة الى تأليف كتب واصدارات في هذه الجامعة، كان العلماء الايرانيون يترجمون كتباً كثيرة من اليونانية والهندية الى الفهلوية ويدرسونها للطلبة، فبامكاننا ان نتعرف على قدم التعليم والتعلم الرسمي في ايران، وذلك من خلال اجراء أبحاث ودراسات على هذه الجامعة.
في زمن انوشيروان، هاجر عدد من الفلاسفة اليونانيين الى ايران، وذلك بسبب تعصب الامبراطور الروماني وإغلاقه أكاديمية أثينا. ولقي هؤلاء دعم الملك الايراني وباشروا التدريس في جامعة جنديسابور. هذا وأوفد انوشيروان عدداً منهم الى الهند لكسب العلوم والمعارف. وبذلك انتشر الطب اليوناني في جامعة جنديسابور وترجمت فلسفة أرسطو طاليس وافلاطون في زمن الملك انوشيروان الى الفارسية. كما توجه برزويه الطبيب في ذلك الوقت الى الهند وعاد بعد مدة الى ايران وهو يحمل معه كتباً هندية ويصطحبه عدد من علماء هذا البلد.
كما كان لجامعة جنديسابور الدور المهم والفاعل في علوم أخرى مثل الكيمياء والطب والبايولوجيا، وكانت السريانية اللغة الرسمية للتدريس والتعليم وحتى المحادثة. وقد أثر وجود أوجه التشابه الكبير فيما بين اللغتين السريانية والعربية، في الانتقال السريع والسهل لعلوم ومعارف العهد القديم الى العهد الاسلامي. كما امر انوشيروان فيما بعد ببناء كلية جديدة في جنديسابور لتدريس علم الرياضيات والفلسفة والنجوم فضلاً عن انشاء كلية الطب فيها. ويمكن القول هنا ان الارتباط الوثيق بين الطبين الاسلامي واليوناني يعود تاريخه الى أواخر عهد الحكم الساساني وتحديدا عند تأسيس جامعة جنديسابور.
يذكر أن جامعة جنديسابور كانت تعيش في أهم فترة حياتها العلمية عندما بزغت شمس الاسلام. هذه الجامعة التي كانت تعتبر اهم مركز طبي في ذلك الوقت، يلتقي فيها العلماء والأطباء والفلاسفة من شعوب وأعراق مختلفة.
مزج العلماء في جنديسابور الأنماط والسنن الطبية اليونانية والهندية والايرانية بعضها مع البعض ومهدوا أرضية خصبة نشطة للطب الاسلامي.
هذا وفي إبداع الطريقة العلاجية الخاصة بالمستشفى يعود الفضل والفخر فيه الى الايرانيين أنفسهم. ان النماذج الاولية لمستشفيات العهد الاسلامي وكذلك أول نموذج للأدوية والمستحضرات الطبية يرجع تاريخها الى هذا المختبر الطبي الكبير في العالم. كما لهذه الجامعة نصيب وافر في تدريس علم الكيمياء لا يمكن لنا أن ننسى دورها بهذا الشأن. وكانت جنديسابور من أهم الجامعات في العالم واكثرها شهرة حتى بعد القرون التي أعقبتها.
ومن اولئك الذين درسوا في جنديسابور نذكر على سبيل المثال عبدالله بن ميمون القداح عالم النجوم ومن أهالي مدينة أهواز، وجورجيس (بن بختيشوع، كبير أطباء جنديسابور)، ودعبل الخزاعي الشاعر الشيعي والحارث بن كلده الطبيب.
قام الايرانيون وحسب التزامهم بتدريس وتعليم العلوم والمعارف الباقية من العهد القديم للمسلمين، وكان لهم دور مهم وفاعل في عملية نقل الأعمال والمؤلفات من اللغة الفهلوية الى العربية. كما كانت للإيرانيين خبرة ومهارة بارعة في علمي الرياضيات والنجوم، وتمت ترجمة كثير من الآراء والنصوص في هذه العلوم من الفارسية الى العربية.
يعد كتاب "زيغ شهريار"، والذي تم تدوينه في زمن الملك الساساني يزد جرد الثالث، يعد هو الآخر من جملة الجهود الحثيثة التي بذلها الايرانيون في مجال علم الفلك.
جدير بالذكر أن مدينة جنديسابور من بعد سقوط مدينة شوشتر، فتحها العرب المسلمون، بيد أن جامعتها المشهورة بقيت تواصل حياتها العلمية حتى القرن الثالث الهجري. هذه الجامعة كانت في القرون الاسلامية الأولى منتدى المعارف والعلوم العقلية. هذا وكان لجنديسابور دور مهم في تعزيز مكانة علمي الطب والبايولوجيا، وذلك نظراً لأساليب الطب البقراطي والجالينوسي التي كانت قائمة هناك، بيد أن هذه الجامعة وبسبب توجه عدد كبير من العلماء والأطباء الى بغداد، حيث كانت مركز الخلافة في العصر العباسي والعمل في مستشفى هذه المدينة، ذهب بريقها شيئاً فشيئاً واختفت عن الوجود.
وانتقلت جامعة جنديسابور كلها فيما بعد الى بغداد، وبذلك رأى الطب الاسلامي النور منذ ذلك الحين. وكان الايرانيون من كبار أطباء العالم الاسلامي في عهد حكم العباسيين. يذكر أن المأمون العباسي أمر ببناء "دار الحكمة" في عاصمة الخلافة بغداد تقليداً لـ (جنديسابور).