نص الحديث
قال الإمام الجواد عليه السلام: "توسد الصبر، واعتنق الفقر ...الخ".
الحديث المتقدم ينطوي على استعارتين، احداهما: تطالب بتوسد الصبر، والاخرى بمعانقة الفقر،.. واهمية هذا الحديث تتمثل ليس في فضيلة واهمية كل من الصبر والفقر فحسب، بل بما ينطويان عليه من المعطيات المرتبطة بسلوك الانسان وصلته بالسوية وبالشذوذ ... لذلك، فان الإمام (عليه السلام) حينما يصوغ ظاهرة الصبر ويستعير لها (التوسد) انما يصوغ لنا ما يترتب على مفهوم التوسد من المعطيات ... واما عندما يصوغ لنا ظاهرة الفقر ويستعير لها مصطلح (المعانقة) فأمر له معطياته الدلالية (البلاغية) وهذا ما نحدثك عنه الآن...
دلالة الحديث
اما دلالياً فلا ترديد بأن الفقر هو ظاهرة طالما تحدثت النصوص الشرعية، وفي مقدمتها: الأدعية، حيث تحث الداعي الى الطلب والتوسل بالله تعالى ان يعيذنا من الفقر، مما يعني ان الفقر هو شدة من الشدائد كالمرض ونحوه، ولكن في الآن ذاته فان المرض مثلاً والفقر كذلك يحملان خصائص ايجابية .. فبالنسبة الى الفقر نجد ان النصوص الشرعية تقرر بان الفقر هو شعار الصالحين، وان الله تعالى ما بعث نبياً الا فقيراً، معللة ذلك بان الفقر افضل من الغنى لانه يعفي الشخصية من مسؤولية المال الذي يترتب عليه الانفاق الواجب والمندوب ونحو ذلك ...
المهم: في ضوء هذه الحقيقة يصوغ الإمام الجواد (ع) ظاهرة الفقر صياغة استعارية يطالبنا بأن نعتنق الفقر ...
والسؤال هو: لماذا قال النص: اعتنق الفقر ولم يقل مثلاً توسد الفقر (كما هو ملاحظ في الحديث) ؟ الجواب من الزاوية البلاغية على النحو الآتي:
ان الاستعارة القائلة (اعتنق الفقر) تخلع على الفقر طابع (الاعتناق) اي: تضمه الى صدرك كما تضم صديقك الى صدرك ترحيباً به وشوقاً اليه ترى: ما هو الطابع المشترك بين معانقتك لمن تحب ومعانقتك للفقر؟
بما ان الفقر ظاهرة سلبية (من حيث النظر الاولي له) حينئذ فان (البغض) وليس (الحب) هو المناسب له، لكن بما ان الحديث يستهدف بيان المعطى المترتب على الفقر: حينئذ يطالبنا بان نحبه ونعانقه تعبيراً عن ذلك، لماذا؟
الجواب: عندما تعانق الفقر تجعله غير منفصل عنك، وهذا يعني انكما مرتبطان ارتباطاً وثيقاً، واهمية هذا الارتباط تتمثل في كونك لاتحتمل ذات يوم بامكانية وصول الشدة اليك، فالمال قد يلهيك عن الله تعالى من جانب، ويعرضك للمسؤولية من جانب آخر، .. اما الفقر فيقربك الى الله تعالى، حيث ان الفقير يتجه دواماً الى الله داعياً، سواء أكان الدعاء اعاذة من الفقر المدقع ومع ملاحظة ان السلبية من الفقر تتمثل في ماهو (مدقع) وليس الفقر العادي، وسواء اكان الدعاء موجها، عاماً الى الله تعالى، ففي الحالين ثمة عطاء كبير: كما هو واضح ...
بلاغة الحديث
اذن: اتضح جانب من معطيات الفقر العادي، سائلين الله تعالى ان يجعلنا من الملتزمين بطاعته، انه سميع مجيب.