بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله بما يليق بوجهه الكريم، وأفضل الصلاة وأسمى السّلام على من هو بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم، وعلى آله الهداة إلى مرضاة العزيز الحكيم. أيها الإخوة المؤمنون الأحبّة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وها نحن نقف على مشارف خاتمة لقاءاتنا الطيبة معكم حول أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام في القرآن، نجد أنفسنا عاجزين عن الإلمام بعشرات الآيات، بل مئاتها، نازلةً في أهل البيت عامّة، وفي الإمام عليٍّ خاصة. لذا لابدّ أن يكون بعد لقاءٍ من وداع، ووداعنا معكم على هذه الآية المباركة من سورة الأحزاب، قوله عزّ من قائل: "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً "(الآية ۲۳)، والنّحب هو النّذر المحكوم، وقضى نحبه: أي وفى بنذره، ويعبّر بذلك عمّن توفي، والآية الكريمة تقول: من المؤمنين من قضى أجله بموتٍ أو قتلٍ في سبيل الله تعالى، ومنهم من ينتظر أجله، وما بدّلوا شيئاً ممّا كانوا عليه من قولٍ أو عهدٍ، تبديلاً. كتب الخوارزميُّ الحنفيّ في (المناقب): قيلٍ نزل قوله تعالى: "فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ" في حمزة وأصحابه، كانوا عاهدوا الله لا يولّون الأدبار، فجاهدوا مقبلين حتّى قتلوا. "وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ"، عليُّ بن أبي طالب عليه السلام، مضى على الجهاد، ولم يبدّل ولم يغير. وقال الكلبيّ في تفسيره (التسهيل لعلوم التنزيل): ما بدّلوا العهد بالصبر، ولا نكثوه بالفرار. والآن، كيف يتأكد لنا أيها الإخوة الأعزة، أنّ علياً عليه السلام كان هو المنتظر في هذه الآية الشريفة، لنستقرئ الروايات حتى يتبين لنا ذلك.
كتب السيد هاشم البحرانيّ صاحب تفسير البرهان، في مؤلفه القيم: (اللوامع النورانية في أسماء عليٍّ وأهل بيته القرآنية) أنّ من أسماء الإمام عليٍّ عليه السلام في سورة الأحزاب: أنّه من المؤمنين، وأنه ممّن ينتظر، وممّن لم يبدّلوا تبديلا. أماّ ما أثبت ذلك فرواياتٌ عديدة، منها ما جاء في كتاب (الصواعق المحرقة) لابن حجر الهيثميّ، قال: وسئل عليٌّ وهو على المنبر بالكوفة عن قوله تعالى: "رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً" ، فقال: (اللّهمّ غفراً، هذه الآية نزلت فيّ وفي عمّي حمزة، وفي ابن عمّي عبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب، فأمّا عبيدة فقضى نحبه شهيداً يوم بدر، وحمزة قضى نحبه شهيداً يوم أحد، وأماّ أنا فأنتظر أشقاها يخضب هذه من هذه، وأشار إلى لحيته وهامته. ثمّ قال: عهدٌ عهده إليّ حبيبي أب القاسم صلّى الله عليه وآله. ذكره الشبلنجيُّ الشافعيّ في كتابه (نور الأبصار بمناقب آل النبيّ المختار) نقلاً عن (الفصول المهمّة في معرفة الأئمة) لابن الصبّاغ المالكيّ. وروى السيد شهاب الدين الأيجيُّ الشافعيّ في كتابه (توضيح الدلائل في تصحيح الفضائل) بإسناده عن أبي جعفر محمّد بن عليّ رضي الله تعالى عنهما قال: "وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ" عليُّ بن أبي طالب. وبإسناده عن عبد الله بن عبّاس روى الحافظ الحسكانيُّ الحنفيّ في (شواهد التنزيل لقواعد التفضيل) أنه قال: "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ" ، يعني علياً وحمزة وجعفراً، "فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ"، يعني حمزة وجعفراً، "وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ" يعني علياً، كان ينتظر أجله، والوفاء لله بالعهد والشهادة في سبيل الله، ثمّ قال ابن عبّاس: فوالله لقد رزق الشهادة!. كذا روى الحسكانيّ عن أبي إسحاق، عن عليٍّ عليه السلام أنّه قال: (فينا نزلت: "رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ" الآية، إلى أن قال: فأنا والله، المنتظر وما بدّلت تبديلا). وفي روايةٍ أوضح رواها الشيخ سليمان القندوزيُّ الحنفيّ في مؤلّفه النافع (ينابيع المودّة لذوي القربى) عن الحافظ أبي نعيم الأصفهانيّ، قال عن ابن عباس وعن جعفر الصادق عليه السلام قالا: قال عليٌّ كرّم الله وجهة: (كنّا عاهدنا الله ورسوله، أنا وحمزة وجعفرٌ وعبيدة بن الحارث على أمرٍ وفينا به لله ولرسوله، وتقدّمني أصحابي وخلّفت بعدهم، فأنزل الله سبحانه فينا: "رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ" حمزة وجعفرٌ وعبيدة، "مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا" أنا المنتظر، وما بدّلت تبديلا).
وتتوافد المصادر سنيةً وشيعيةً أيها الإخوة الأكارم، معاضدةً لتفسير الآية الكريمة التي نحوم حولها في هذا اللقاء الطيب معكم، فإضافةً إلى ما سلف ممّا أوردناه، روى ما مرّ علينا عالم الهند عبيد الله الأمر تسرّي في كتابه (المناقب أو: أرجح المطالب)، والسيد هاشم البحرانيّ في تفسيره (البرهان) عن مصادر عديدة، من ذلك ما أسنده إلى عبد الله بن الحسن عن آبائه عليهم السلام، قال: وعاهد الله عليُّ بن أبي طالب عليه السلام، وحمزة بن عبد المطّلب، وجعفر بن أبي طالب عليه السلام أن لا يفرّوا في زحفٍ أبداً، فتمّوا كلّهم، فأنزل الله: "رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ"، حمزة استشهد يوم أحدٌ، وجعفرٌ استشهد يوم مؤتة، "وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ" يعني عليّ بن أبي طالب عليه السلام، "وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً"، يعني الذي عاهدوا الله عليه. وقريباً منه ما رواه: ابن شهرآشوب في (مناقب آل أبي طالب)، والقمّي في تقسيره، وسبط ابن الجوزي الحنبليُّ الحنفيّ في (تذكرة خواصّ الأمّة)، والشيخ الصدوق في بعض مصنّفاته، والبياضيُّ في (الصراط المستقيم، إلى مستحقيّ التقديم)، والخازن في تفسيره، والبغويُّ في (معالم التنزيل)، وابن مردويه في (المناقب)، كما في (كشف الغمة) للإربلّيّ، والكشفيُّ الترمذيُّ الحنفيّ في (المناقب المرتضوية)، وغيرهم. بقي أن نقف على حقيقةٍ مهمّة، وهي أيها الإخوة الأعزّة الأفاضل، أنّ القرآن نزل بعشرات الآيات ومئاتها في أهل بيت النبوّة عامّة، وفي أمير المؤمنين عليٍّ خاصّة، وكلّها مادحة، وكاشفةٌ لمناقبهم وفضائلهم، ومؤدّيةٌ إلى التعريف بأفضليتهم، ومنها قوله تبارك وتعالى: "وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً". وقد أنبأ الإمام عليٌّ عليه السلام بعهدٍ معهودٍ صادقٍ مصدّق، من الرسول الصادق المصدّق، صلى الله عليه وآله، أنّه عليه السلام هو المنتظر، لأيّ شي، وعلى أية حال؟! قد أخبر مراراً وتكراراً أنّه ينتظر الشهادة، وكم بكى شوقاً لها سلام الله عليه، فطمأنه النبيُّ في أحاديث كثيرةٍ أنّه سينالها، وذاك يوم تبوك حينما خلّفه على المدينة. أمّا في خطبته صلى الله عليه وآله في فضل شهر رمضان يوم سأله الإمام عليّ: يا رسول الله، ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقد أجابه بقوله: يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عزّوجلّ. ثمّ بكى صلّى الله عليه وآله، فسأله: يا رسول الله ما يبكيك؟ قال: يا عليّ، أبكي لما يستحلّ منك في هذا الشهر، كأنّي بك وأنت تصلّي لربّك، وقد انبعث أشقى الأوّلين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود، فضربك ضربةً على قرنك فخضب منها لحيتك. فسأله عليٌّ عليه السلام هنا: يا رسول الله، وذلك في سلامةٍ من ديني؟ فقال صلّى الله عليه وآله: في سلامةٍ من دينك. ومن هنا كان يسمع مراراً يقول بعد قراءته قوله تعالى: "وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ": أمّا أنا فأنتظر أشقاها يخضب هذه من هذه. يقول ذلك ويشير إلى لحيته وهامته.