بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله بارئنا، والصلاة والسلام على المصطفى نبينا وحبيبنا، وعلى آله موالىنا وأئمتنا. أيها الإخوة المؤمنون الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، من البصيرة بمكان أن يتحقّق التالى لكتاب الله تبارك وتعالى في مقاصد الآيات وأسباب نزولها، ومن هم المعنيون بها، ليميز الحقّ والمحقّ، عن الباطل والمبطل، وليتعرّف على الأسوة الحسنة بعد رسول الله صلّيى الله عليه وآله. والمثال في ذلك أنّنا نقرأ في سورة الحاقّة قوله عزّوجلّ: "لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ" (الآية ۱۲)"، فمن يا ترى هي الأذن الواعية؟ قال المفسّرون: الوعي، هو جعل الشيء في الوعاء، والمراد بوعي الأذن لها تقريرها في النفس وحفظها فيها، لتترتّب عليها فائدها وهي التذكر والاتعاظ. وفي الآية الشريفة بجملتيها: "لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ"إشارةٌ إلى الهداية الربوبية بكلا قسميها: الهداية بمعنى إراءة الطريق إلى الحقّ والخير، والهداية بمعنى الإيصال الى المطلوب. والآن أيها الإخوة الأحبّة، ماذا تقول الروايات الشريفة، في ظلّ هذه الآية المنيفة؟ ومن تريد بالمصداق الحقّ للأذن الواعية؟
في مجموع الأخبار المفسّرة لآية الأذن الواعية نستطيع أن نقسمّها الى روايتين أساسيتين، ثمّ تأتي بقية الروايات مقاربةً لهما: فالرواية الأولى: ويذكرها الحافظ أبو نعيم الأصفهانيّ في كتابه ( النورالمشتعل أو: ما نزل من القرآن في عليٍّ عليه السلام) بسندٍ طويلٍ ينتهي الى الإمام عليٍّ عليه السلام، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال له: (يا عليّ، إنّ الله عزّوجلّ أمرني أن أدنيك وأعلّمك لتعي، وأنزلت هذه الآية: "وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ" (فأنت أذنٌ واعيةٌ لعلمي). وفي رواية (خصائص الوحي المبين) أورد النصّ ابن بطريق هكذا: (فأنت أذنٌ واعية). وقد روى ذلك أيضاً أبو نعيم في (حلية الأولياء)، والسيوطيُّ الشافعيُّ في (جمع الجوامع)، والمتّقي الهنديُّ في (كنز العمّال)، والحافظ الحاكم الحسكانيّ الحنفيّ في (شواهد التنزيل) بسندين، مع زيادة قول رسول الله صلّى الله عليه وآله في آخر حديثه المبارك: (يا عليّ، وأنت المدينة وأنت الباب، ولا يؤتى المدينة إلاّ من قبل بابها). كذلك روى ما تقدّم ابن عساكر الدمشقيُّ الشافعيّ في ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من كتابه (تاريخ مدينة دمشق)، والجوينيّ الشافعيّ في (فرائد السمطين). وبسندٍ آخر يروي الحسكانيّ منتهٍ الى زرّ بن حبيش عن عليّ بن أبي طالبٍ قال: (ضمّني رسول الله وقال: أمرني ربّي أن أدنيك ولا أقصيك، وأن تسمع وتعي، وحقّ على الله أن تعي. فنزلت: "وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ". وفي روايةٍ أخرى قال: (وأُعلّمك لتعي). ومثل هذا ما رواه ابن جرير الطبريُّ في تفسيره (جامع البيان في تفسير القرآن)، والهيثميّ الشافعيّ في (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد)، والسيوطيّ في تفسيره (الدرّ المنثور)، وغيرهم كثير روايةً أو نقلاً.
أمّا الرواية الثانية إخوتنا الأكارم، فيرويها الحافظ أبو نعيم في (ما نزل من القرآن في عليّ)، هي الأخرى بسندٍ ينتهي الى أمير المؤمنين عليّ، حيث يقول في قوله تعالى: "وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ": (قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله: دعوت الله أن يجعلها أذنك يا عليّ). رواه الطبريُّ في (جامع البيان) ولكن عن مكحولٍ أنه قال: قرأ رسول الله "وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ"، ثمّ التفت الى عليٍّ فقال: سألت الله أن يجعلها أذنك. قال عليّ : (فما سمعت شيئاً من رسول الله صلى الله عليه وآله فنسيته). وأورده الزمخشريُّ هكذا: عن النبيّ صلى الله عليه وآله أنّه قال لعليّ عند نزول هذه الآية: سألت الله أن يجعلها أذنك يا عليّ. قال عليٌّ عليه السلام: (فما نسيت شيئاً بعد، وما كان لي أن أنسى). وذكره الفخر الرازيّ في كتابه (التفسير الكبير)، والسيوطيُّ في (الدرّ المنثور)، والبلاذريّ في (أنساب الأشراف) وفيه قول الإمام عليّ عليه السلام: (فما نسيت حديثاً أو شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم). كذا رواه الحسكانيُّ في (شواهد التنزيل) بأسانيد عديدة، فيها قول رسول الله: (سألت الله تعالى أن يجعلها أذنك، ففعل)، عن مكحولٍ مرّة، وعن بريدة أخرى، كما في (تاريخ دمشق)، و(مناقب عليّ بن أبي طالب) لابن المغازليّ الشافعي، و(جمع الجوامع)، و(التفسير العظيم) لابن كثير، وفيه قول النبيّ صلى الله عليه وآله: "سألت ربّي أن يجعلها أذن عليّ"، عن مكحول، كما روى ذلك أو قريباً منه الواحديُّ في (أسباب النزول)، والهنديّ في (كنز العمّال)، والديلميّ في (فردوس الأخبار) والحاكم في (المستدرك)، والزرنديُّ الحنفيّ في (نظم درر السمطين)، وابن الصبّاغ المالكيّ في (الفصول المهمةّ)، والماورديّ في تفسيره، وكذا القرطبيّ في تفسيره، والشوكانيّ في (فتح القدير)، والقندوزيُّ الحنفيُّ في (ينابيع المودّة)، وعن علي عليه السلام روى الخوارزميُّ الحنفيُّ في (المناقب) قوله: (ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله شيئاً إلاّ حفظته، ووعيته، ولم أنسه). وفي (كفاية الطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب) روى الگنجيُّ الشافعيّ أنّ علياً عليه السلام قال: (فما نسيت شيئاً بعد، وما كان لي أن أنسى)، ثمّ قال الگنجيّ: وفي شرح الآية: "وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ"، أي: حافظة، أكثر المفسّرين على أنّه عليٌّ كرّم الله وجهه وهو القائل: (والله ما من آيةٍ نزلت في برٍّ أو سهلٍ أو جبل، في ليلٍ أو نهارٍ إلاّ وأنا أعلم فيمن نزلت، وفي أيّ شيءٍ نزلت). وباسنادٍ عن الأصبغ بن نباته أنّه عليه السلام قال: (والله أنا الذي أنزل الله فيّ "وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ"، فإنا كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله فيخبرنا بالوحي، فأعيه ويفوتهم، فإذا خرجنا قالوا: ماذا قال آنفاً؟!). أجل، وفي ذلك أيها الإخوة، يقول السيد الحميريّ:
وصيُّ محمّدٍ وأمين غيبٍ
ونعم أخو الإمامة والوزير
إذا ما آيةٌ نزلت عليه
يضيق بها من القوم الصّدور
وعاها صدره وحنت عليها
أضالعه، وأحكمها الضمير
ومن هنا استدل بعض العلماء بقولهم: لمّا كان عليٌّ عليه السلام أعلم الناس بكتاب الله، وسنّة رسول الله، كان هو الإمام بعد النبيّ صلى الله عليه وآله على الأمّة كلّها، وخليفته عنه، لأنّ مدار الإمامة والخلافة على العلم والفضل. وفي تعليقته على آية الأذن الواعية بعد ثبوت نزولها في الإمام عليّ عليه السلام، قال العلامة الحليّّ في (منهاج الكرامة): وهذه الفضيلة لم تحصل لغيره، فيكون هو الإمام.