بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الواحد القهّار، وأزكى الصلاة والسّلام على حبيبه المصطفى المختار، وعلى آله الأئمة الأبرار. أيها الإخوة الأعزّة المؤمنون، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كان من أسلوب القرآن الكريم أن يرمز بالصفات إلى الموصوفين دون ذكر أسمائهم، لأنّ النفوس الحاسدة لا تتحمّل التصريح، وقد تعمد الأيدي المحرّفة إلى الحذف والتشويه، فجاءت الآيات تشير وتلمّح، حتى إذا ثبت التنزيل، تهيأت الفرصة للبيان والتأويل، لاسيما إذا سأل الصحابة عمّن قصدته الآية، أو كانوا شهوداً عند نزول الآيات، فأيدوا وصدّقوا وأكّدوا أنّ أسباب نزولها كذا وكذا. وقد قال تعالى في سورة البقرة: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ"، وفيه بيانٌ بأنّ هناك رجلاً باع نفسه لله سبحانه، لا يريد إلاّ ما أراده الله تعالى، لا ابتغاء له إلاّ مرضاة الله جلّ وعلا. و(يشري نفسه) في الآية المباركة بمعنى يبيعها، والمشتري هو الله الرؤوف بالعباد، ولعلّ في ذلك إشارةً إلى قوله عزّ من قائل "إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ" (سورة التوبة الآية ۱۱۱)، والان، من البائع في قوله تعالى:"وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ" ؟ هذا ما نتبينه إن شاء الله تعالى بعد هذه الوقفة القصيرة.
لابدّ لنا أيها الإخوة الأفاضل، في تبيان المقصودين في الآيات من مراجعة كتب أسباب النزول، والتفاسير الروائية التي صرّحت بالأسماء مع ذكر الوقائع التي رافقت هبوط الوحي بالسور والآيات. فنقرأ مثلاً في (الكشف والبيان) للثعلبيّ أنّ ابن عباسّ ذكر أنّ الآية نزلت في عليٍّ حين خرج النبيّ صلّى الله عليه وآله إلى الغار، ونام عليٌّ على فراشه. ونقرأ في (شواهد التنزيل لقواعد التفضيل) للحسكانيّ الحنفي، باسناده عن ابن عباّس أنّه قال: شرى عليٌ نفسه، ولبس ثوب النبيّ صلى الله عليه وآله ثمّ نام مكانه. وروى أيضاً هو والجوينيُّ الشافعيُّ في (فرائد السمطين) عن عليّ بن الحسين، أنهّ قال: إنّ أوّل من شرى نفسه ابتغاء رضوان الله تعالى هو عليُّ بن أبي طالب. وفي روايةٍ أخرى جاء قوله: أوّل من شرى نفسه لله عزّوجلّ عليّ. ثمّ قرأ: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ"، قال الحاكم الحسكانيّ بعد ذلك معلّقاً: وذلك عند مبيته عليه السلام على فراش رسول الله. وروى أيضاً بإسناده عن السّدّيّ أنّه قال: نزلت الآية في عليّ بن أبي طالب، في ناسخ القرآن ومنسوخه. وكان للإيجيّ الشافعيّ في كتابه (توضيح الدلائل في تصحيح الفضائل) تعليقته هو الآخر على هذه الروايات، حيث قال: لقد جزم عزم عليّ على أن يفدي نفسه، ويبذل مهجته دون رسول الله صلى الله عليه وآله، وبارك وسلّم. وأمّا قصة هجرة النبيّ صلّى الله عليه وآله، ومبيت عليٍّ عليه السلام في مكانه، وما لاقى وعانى من المشركين حين هجموا على الدار يريدون قتل رسول الله، فذلك ما فصّل في ذكره ابن عساكر الدمشقيُّ الشافعيّ في مؤلّفه المشهور (تاريخ مدينة دمشق)، أماّ الحسكانيّ فقد لخّص ذلك لاشتهار الأمر بروايته عن عليّ بن الحسين عليه السلام في قوله تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ"، حيث قال: نزلت في عليّ بن أبي طالب لمّا توجّه رسول الله إلى الغار وأنام علياً على فراشه. وفي تعليل ذلك روى عن ابن عباّسٍ قوله: بات عليٌّ ليلة خرج رسول الله صلى الله عليه وآله عن المشركين على فراشه، ليعمّي على قريش، وفيه (أي في عليٍّ عليه السلام) والحديث مازال لابن عباّس: نزلت هذه الآية: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ". وأكّد هذا الأمر بنصوصٍ حديثية أو خبرية، تفسيريةٍ أو تاريخية، عددٌ هائلٌ من المصادر، نكتفي بذكر مشاهيرها لاسيما مماّ دوّنته أقلام علماء السنّة على وجه الخصوص، منها: (المستدرك) للحاكم النّيسابوريّ الشافعيّ، و(تاريخ الطبريّ)، و(المناقب) للخوارزميّ الحنفيّ، و(كفاية الطالب) للگنجيّ الشافعيّ، و(الفصول المهمّة) لابن الصبّاغ المالكيّ، و(مجمع الزوائد) للهيثميّ الشافعيّ، و(تاريخ اليعقوبيّ)، و(تاريخ بغداد) للبغداديّ، وتفسير الفخر الرازيّ، و(غرائب القرآن) للنيسابوريّ، و(تفسير الطبريّ)، و(تذكرة خواصّ الأمة) لسبط ابن الجوزيّ الحنبليّ، و(مسند أحمد بن حنبل)، و(مناقب عليّ) لابن المغازليّ الشافعيّ، و(أسد الغابة) لابن الأثير، وغيرها عشراتٌ يطول ذكرها، تكاثرت فيها الروايات والأخبار من طرق الفريقين أنّ الآية نزلت في شأن ليلة المبيت والهجرة. حتى قال أبو جعفر الإسكافيّ كما في (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد: إنّ حديث الفراش قد ثبت بالتواتر، فلا يجحده إلاّ مجنون، أو غير مخالطٍ لأهل الملّة. وقد روى المفسّرون كلّهم أنّ الآية نزلت في عليٍّ ليلة مبيته على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله.
وتأتي بعض الروايات إخوتنا الأعّزة الأكارم، وفيها حديث المباهاة، كما يروي الثعلبيُّ وهو من علماء السنّة، عن هند بن أبي هند، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال: أوحى الله إلى جبرئيل وميكائيل: إنّي آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر صاحبه، فأيكما يؤثر أخاه؟ فكلاهما كرها الموت، فأوحى الله إليهما: ألا كنتما مثل وليي عليّ بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمّدٍ نبيي، فآثره بالحياة على نفسه، ثمّ رقد على فراشه يقيه بمهجته. إهبطا إلى الأرض جميعاً فاحفظاه من عدوّه. فهبط جبرئيل فجلس عند رأسه وميكائيل عند رجليه، وجعل جبرئيل يقول: بخٍ بخٍ! من مثلك يا ابن أبي طالب؟! والله يباهي بك الملائكة؟! فأنزل الله: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ". روى ذلك أيضاً: المحدّث الحنبليّ الموصليّ، وابن مردويه، وذكره ابن الأثير في كتاب (الإنصاف)، وأحمد بن حنبل في (المسند)، والقنذوريُّ الحنفيّ في (ينابيع المودّة)، والقرطبيّ في تفسيره، وابن السائب الكلبيّ في (التسهيل)، والصفدريُّ في (نزهة المجالس)، والحسكانيُّ في (شواهد التنزيل) عن الخدريّ.، وغيرهم كثير، حتيّ أنّ المراجع والباحث مع وفرة المصادر في ذلك، يستشعر التسالم والإجماع، فضلاً عن الشهرة والتواتر. لاسيّما وأنّ أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام كان في مناظراته واحتجاجاته في شأن الخلافة يحاجج بهذه الآية فلا يجد من ينكر نزولها فيه وفضله بها، فقال لهم وقد أخّروه عن الأمر: فهل فيكم أحدٌ نزلت فيه هذه الآية: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ"، لماّ وقيت رسول الله صليّ الله عليه وآله ليلة الفراش غيري؟! قالوا: لا.
أجل.. لم ينكر أحد، بل لم يستطع أحدٌ إنكار ذلك وقد علموا جميعاً أنّ علياً عليه السلام هو الذي وطّن نفسه علي الشهادة فداءً لرسول الله ووقايةً له بمهجته الشريفة، وآثر حياة رسول الله علي حياته، بتضحيةٍ ووفاء وشجاعة. حتيّ استدلّ العلاّمة الحليّ في (منهاج الكرامة) بذلك قائلاً: وهذه فضيلةٌ له عليه السلام لم تحصل لغيره، تدلُّ علي أفضليّته على جميع الصحابة، فيكون هو الإمام.
أجل، وكان عليه السلام من ظليمته، وإنكار فضائله، ودفعه عن مقامه الذين عينه الله تعالى له وثبّته رسول الله مراراً وتكراراً، على مسامع الملأ ومشاهدهم، أن قال عليه السلام هذه الأبيات ولم يرُدّها أحد:
وقيت بنفسي خير من وطيء الحصى
ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
رسول إلهي خاف أن يمكروا به
فنجّاه ذو الطول الإله من المكر
وبات رسول الله في الغار آمناً
موقىً، وفي حفظ الإله وفي ستر
وبتُّ أراعيهم وما يثبتونني
ووطّنت نفسي على القتل والأسر