قلنا، ان (الحديث الفني) يظل هو النتاج الأكثر مساحة في أدب المعصومين (عليهم السلام) مادامت التوصيات العامة المرتبطة بمبادىء الشريعة الاسلامية: يتم توصيلها الى الآخرين من خلال (الحديث)، بصورة ايسر من غيرها من اشكال التعبير، طالما يتسم الحديث بكونه قصيراً، لا يتجاوز جملة من الكلمات...
واليك نموذجاً من احاديث الامام الجواد (عليه السلام):
«من شهد امراً فكرهه كان كمن غاب عنه، ومن غاب عن امر فرضيه كان كمن شهده»(۳).
«توسد الصبر، واعتنق الفقر، وارفض الشهوات، وخالف الهوى، واعلم انك لن تخلو من عين الله فانظر كيف تكون»(٤).
«من اصغى الى ناطق فقد عبده، فان كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وان كان الناطق ينطق عن لسان ابليس فقد عبد ابليس»(٥).
«من أطاع هواه: اعطى عدوه مناه»(٦).
«من لم يعرف الموارد اعيته المصادر»(۷).
«راكب الشهوات لا تستقال له عثرة»(۸).
«اياك ومصاحبة الشرير، فانه كالسيف المسلول: يحسن منظره، ويقبح اثره».
هذه النماذج تتضمن (أشكالاً فنية) متنوعة، بعضها ينطوي على عنصر ايقاعي مثل (منظره، اثره) ومثل (هواه، مناه)... وبعضها ينطوي على قيم لفظية تعتمد التقابل مثل (شهد، غاب) ومثل (الموارد، المصادر)... وبعضها ينطوي على عنصر صوري... وهذا العنصر قد يكون تشبيهاً مثل (كمن غاب عنه) (كمن شهده) (كالسيف المسلول)... وقد يكون استعارة مثل (توسد الصبر) (راكب الشهوات)... وقد يكون استدلالاً مثل (من لم يعرف الموارد....)... الخ.
طبيعياً، عندما تتنوع الاشكال الفنية: ايقاعياً وصورياً ولفظياً،... ثم عندما تتنوع مستويات كل شكل فني مثل الصور: تشبيهاً، واستعارة، واستدلالاً... ثم عندما تدخل هذه المستويات في تفصيلات وتفريعات صورية (مثل: النموذج الاخير الذي يتضمن تشبيهاً وتفريعاً على التشبيه المذكور، ومثل غالبية النماذج الاستعارية الأخرى)، حينئذ نستكشف اهمية الطابع الفني الذي توفر عليه الامام الجواد (عليه السلام)...
والملاحظ ان الطابع الذي قلنا ان الامام (عليه السلام) قد عنى به وهو تحويل الصورة الفنية الى تعبير علمي، يظل ملحوظاً في أكثر من نموذج،... ففي قوله (عليه السلام): «من شهد أمراً فكرهه: كان كمن غاب عنه، ومن غاب عن امر فرضيه: كان كمن شهده» يظل متوكئاً على عنصر التشبيه ولكنه (تشبيه علمي)، لان الغياب والحضور عملية واقعية تحدث او يمكن ان تحدث فعلاً، وليس انها تقوم على ايجاد علاقات بين اشياء لا علاقة بينها في عالم الواقع: كإحداث العلاقة بين الشمس والوجه مثلاً... ولكن عندما يستدعي السياق احداث علاقة من هذا النوع، يتجه (عليه السلام) الى (التشبيه الفني) مثل النموذج الاخير حيث (شبه) الشرير بالسيف المسلول الذي يحسن منظره ويقبح اثره، فالعلاقة بين السيف والشخص (مستحدثة) لا واقع لها في الخارج بعكس الصورة التشبيهية السابقة، بيد ان السياق فرض مثل هذه الصورة الفنية مادام (الشرير) يشبه بالفعل السيف من حيث منظره، لأن الصداقة تحمي الانسان كحماية السيف، ولكن الشرير بصفته عنصراً لا تترتب عليه الحماية المطلوبة، حينئذ اشبه السيف المسلول الذي يقبح اثره:وهو الأذى.
وإذا تركنا هذا الجانب واتجهنا الى (التفريع الصوري) وجدنا أن (الفن) تبرز فاعليته في أمثلة هذا التفريع، ومنه ظاهرة (السيف) نفسه، فهو (عليه السلام) فرع على السيف جانبين: الاشهار والأثر، وقرن بينهما وبين مصاحبة الشرير وتفريعه الى جانبين ايضاً: الحماية والأذى...
ويتضخم جانب الفن عندما يعتمد (التفريع) عناصر فنية اخرى مثل (التقابل)، فقد (قابل) (عليه السلام) في النموذج الاول بين (من شهد امراً) وبين (من غاب من أمر) وقابل بين (من كرهه) وبين من لم يكرهه، و(قابل) في نموذج آخر بين (أصغى الى الله تعالى) وبين (من أصغى الى ابليس)، وقارن بين عبادة كل منهما وبين الاستماع الى كل منهما... الخ... وحتى في النماذج التي لم يدخل فيها التفريع او التفصيل، نجد ان عنصراً فنياً آخر هو (التركيز) يطبع هذه النماذج...
ان الصورة الاستدلالية القائلة (من لم يعرف الموارد أعيته المصادر) تظل منتسبة الى عنصر (الصورة الاستدلالية) وهي فقرة قصيرة لا تفريع ولا تفصيل فيها، الا انها غنية وثرية بالدلالات الايحائية المتنوعة، حيث ان (الموارد) يمكن ان تنطبق على اية تجربة من تجارب الانسان: فردية او جماعية، عادية او خطيرة، ذهنية او حسية،... الخ، كذلك، فان (المصادر) المترتبة عليها تتسم بنفس الطابع الايحائي الذي يسمح لكل متذوق فني ان يستخلص منه دلالة تتناسب مع حجم خبرته الشخصية، وهو امر يكشف عن اهمية (الفن) الذي تظل ابرز سماته: انه يلحظ تجربة الحياة، ويسمح للمتذوق بان يكتشف بنفسه كثيراً من الحقائق، طالما نعرف بأن مساهمة القارىء في كشف الحقائق، تظل واحدة من ابرز سمات الفن العظيم، كما هوا واضح.
*******
(۳) تحف العقول: ص ٤۷۹.
(٤) نفس المصدر: ص ٤۷۸.
(٥) نفس المصدر:ص ٤۷۹.
(٦) المجالس السنية: ص ٦۲۳.
(۷) نفس المصدر: ص ٦۲۳،٦۲٤.
(۸) نفس المصدر: ص ٦۲۳.
*******