هناك اكثر من رسالة او مكاتبة تفرضها سياقات متنوعة، توفر الامام (عليه السلام) عليها،... منها مثلاً: كتابته الى احد الاشخاص الذي حمل له متاعاً، ففقد، حيث علق على ذلك قائلاً:
«ان انفسنا واموالنا من مواهب الله الهنيئة وعواريه المستودعة، يمتع بما متع منها في سرور وغبطة ويأخذ ما اخذ منها في اجر وحسبة، فمن غلب جزعه على صبره حبط أجره» (۱).
ان هذه الرسالة القصيرة تتضمن بعداً (فنياً وفكرياً) لابد من ملاحظته، فهي اولاً تقتبس من احاديث النبي (صلى الله عليه وآله) اكثر من عبارة او مفهوم (مثل «المواهب» و«العواري» التي سبق ان استشهدنا بها عند حديثنا عن ادب النبي (صلى الله عليه وآله)) وهذا الاقتباس امر لحظناه عند المعصومين حيث يستشهدون اللاحق بالمعصوم السابق تأكيداً للحقيقة الذاهبة الى ان المعصومين جميعاً يصدرون عن نبع الهامي واحد لا يقترن - كما هو شأن البشر العاديين- بذاتية تتميز عن اخرى... ثانياً، نجد ان (لغة الفن) تطبع هذه الرسالة المركزة من خلال (عنصر الصورة «الاستعارة التضمينية» لكلام النبي (صلى الله عليه وآله)) ونعني بها صورة «المواهب» وصورة «العواري»، فبالرغم من ان النبي (صلى الله عليه وآله) صاغ هذه الصورة في فقد بشر عزيز، الا ان الامام (عليه السلام) صاغها في فقد (المتاع)، طالما يظل الحديث مرتبطاً بفقد ما له أهمية (الانفس والأموال) وهو امر يكشف عن الاقتباس جاء (فنياً) يأخذ (السياق) بنظر الاعتبار (المتاع) وليس (المناسبة السابقة - النفس)... كما انه تضمن الحقيقة الفكرية التي صيغت الاستعارة من اجلها وهو قوله (عليه السلام): «يمتع بما متع منها في سرور وغبطة، ويأخذ ما اخذ منها في اجر وحسبة»، حيث ان جمال الاستعارة واهميتها تكمن في ارتكانها الى هذه الحقيقة التي ذكرها (عليه السلام) من ان الشخصية ينبغي ان تستجيب (للمواهب والعواري) بالانفعال (المسر): بصفتها من معطيات الله تعالى، وان يستجيب لفقدانها بالانفعال (الصابر، المحتسب) بصفتها من المعطيات التي سلبها تعالى...
اذن: تظل الحقيقة الفكرية هي المستهدفة اساساً في اي نص شرعي، حيث يوظف (الفن) من اجل توضيحها فحسب،... ولعل الرسالة الآتية التي كتبها (عليه السلام) لأحد الأشخاص (تقديراً لشخصيته المخلصة) تكشف عن نمط آخر من الحقائق الفكريه التي يستهدفها الامام (عليه السلام)، حيث انه (عليه السلام) لم يوشحها بالعبارات (التقليدية: من حيث الفن) بل كتبها: واضحة، مألوفة، واقعية، بحيث (ناسب) بين الواقع وبين العبارة فجاءت العبارة (مسترسلة) كاسترسال الواقع الذي استهدفه الامام (عليه السلام):
قال (عليه السلام) في هذه الرسالة الموجهة الى احدهم (واسمه: علي):
«يا علي: أحسن الله لك جزاك، واسكنك جنته ومنعك من الخزي في الدنيا والآخرة، وحشرك الله معنا، يا علي قد بلوتك وخبرتك في النصيحة والطاعة والخدمة والتوفير والقيام بما يجب عليك، فلو قلت: اني لم ار مثلك لرجوت أن أكون صادقاً. فجزاك الله جنات الفردوس نزلاً، فما خفي علي مقامك ولا خدمتك في الحر والبرد في الليل والنهار، فأسأل الله اذا جمع الخلائق للقيامة ان يحبوك برحمة تغتبط بها، انه سميع الدعاء» (۲).
فالملاحظ، ان سمة (الاسترسال) تطغى على هذه الرسالة بحيث تكشف عن (فن خفي) يتحسسه القارىء دون ان يجد نفسه بحاجة الى ان يلتمس (صورة) أو (ايقاعاً) مكثفين، بل ان (الصورة المباشرة) هي التي تحتل مهمة الصورة التشبيهية او الاستعارية او سواهما، فقوله (عليه السلام) مثلاً «فلو قلت: اني لم ار مثلك لرجوت أن اكون صادقاً»... ان هذه الفقرة هي (فن) بكل ما تعنيه دلالة الفن،... فمن المعروف ان هناك صورة نطلق عليها اسم (الصورة الفرضية) وهذا مثل قوله تعالى: «لو انزلنا هذا القرآن على جبل: لرأيته خاشعاً...» .
حيث انها تعني: (فلو قدر) أو (لو فرض) نزول القران الكريم على الجبل: (لتصدع)... ومثل هذه الصورة تظل (غير مباشرة) اي انها مثل التشبيه والاستعارة والرمز تتناول الحقائق من خلال احداث علاقة بين شيئين لم تكن بينهما علاقة (في عالم الواقع) حيث لم ينزل القرآن (في عالم الواقع: على الجبل) بل هو افتراض وتقدير... وفي ضوء هذه الحقيقة اذا اتجهنا الى عبارة الامام الجواد (عليه السلام): «فلو قلت: اني لم ار مثلك، لرجوت ان اكون صادقاً» نجد اننا امام (صورة فرضية) ايضاً، ولكنها (صورة مباشرة) أي: صورة (واقعية بالفعل) لا انها يمكن ان تكون واقعية في حالة مفترضة (مثل نزول القرآن على جبل) او مثل ما قاله الامام علي (عليه السلام) في احدى صوره الفنية (لو احبني جبل: لتهافت) أي: لو قدر ان يحبه الجبل: لتصدع، لأن الصورتين المذكورتين قد (افترضتا) حالة لم تحدث بالفعل (وهذا ما يميز الصورة الفرضية غير المباشرة: حيث تجسد احد اشكال التعبير الفني)، اما الصورة الفرضية التي صاغها الامام الجواد (عليه السلام)، فتنتسب الى (شكل فني) آخر هو: التجسيد لحالة (تقع) بالفعل متمثلة في قوله (لرجوت: أن اكون صادقاً)... فهو (يرجو) ان يكون صادقاً في فرضيته القائلة بانه لم ير احداً مثل هذا الشخص في اخلاصه،.. والأهمية الفنية لمثل هذه الصورة تكمن في (دقة) التعبير الذي يتحفظ من القاء الكلام غير الواقعي او المبالغ فيه، وهو ما يميز كلام المعصوم (عليه السلام) عن سواه من البشر العاديين ممن يصوغون الصورة: موشحة بالمبالغة او عدم التحفظ، كما هو واضح...
اذن: حتى صياغة (الصورة) تتم - في نتاج المعصومين (عليهم السلام)- من خلال الحرص على (واقعيتها) حرفياً بحيث يظل (الهدف الفكري) هو الأساس في لغة الفن...
ويمكننا ملاحظة ذلك ايضاً، في شكل تعبير آخر هو:
*******
(۱) البحار: ج ٥۰، ص ۱۰۳.
(۲) نفس المصدر: ص ۱۰٥.
*******