من الواضح ان الامام الجواد (عليه السلام) من حيث العمر يعد أصغر الائمة سناً، حيث استشهد بالسم وله (۲٥) سنة... الا انه بالرغم من ذلك اظهر دلائل امامته -بالنسبة للرأي العام - من خلال مناظراته العلمية التي اذهلت كبار العلماء عصرئذ،.. وكان المأمون بخاصة يتولى ادارة هذه المناظرات، ومنها مناظراته المشهورة مع قاضي القضاة يحيى بن اكثم، عندما قرر المأمون ان يزوجه ابنته (ام الفضل) حيث انكر مستشاروه ذلك، لسببين اولهما: صغر سنه، والآخر: خوفهم من أن يتملك الادارة الدنيوية، بخاصة ان والده الرضا (عليه السلام) سبق أن اثار مخاوفهم في هذا الميدان من خلال ولاية العهد التي رفضها (عليه السلام) وانتهت باستشهاده نتيجة للمخاوف المذكورة،... بيد انه لأسباب خاصة اصر المأمون على تزويج ابنته، وعقد مجلساً عاماً للمناظرة بغية اقناعهم بقدرته العلمية... لقد سأله القاضي عن (محرم قتل صيداً) فأجابه (عليه السلام) مستفهماً: «قتله في حل ام حرم، عالماً كان المحرم ام جاهلاً، قتله عمداً او خطأ، حراً كان المحرم او عبداً، صغيراً كان او كبيراً، مبتدئاً بالقتل او معيداً، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها، من صغار الصيد ام من كبارها، مصراً على ما فعل أو نادماً، في الليل كان قتله للصيد ام في النهار، محرماً كان بالعمرة اذ قتله او بالحج كان محرماً؟» ومن الطبيعي ان يبهت القاضي من هذه الأسئلة، وان يعجز عن الاجابة، لصعوبة هذه التفصيلات... بعد ذلك طلب المأمون من الامام (عليه السلام) ان يجيب على هذه التفصيلات، فأجاب على ذلك مفصلاً...
كما أن القاضي المذكور أجرى - في جلسة أخرى- مناظرة سياسية مع الامام الجواد (عليه السلام) تتصل بقضايا الخلفاء، والأحاديث المرتبطة بذلك، حيث استدعى الموقف مقدرة علمية لدحض الاساس الفكري لهذه الأحاديث،... فضلاً عن مواقف أخرى، ومنها: ما ينقله المؤرخون من ان هناك آلاف المسائل العلمية التي وجهت الى الامام (عليه السلام)، واجاب عنها بالنحو الذي يفصح عن الاعجاز العلمي لدى الامام (عليه السلام)...
والمهم، أن الامام (عليه السلام) يظل - كما هو «ادب المعصومين (عليهم السلام)»- متوفراً على متطلبات المناخ الاجتماعي الذي يستدعي حيناً الاقتصار على طرح المشكلات العلمية، او المشكلات الثقافية بعامة، او السياسية، او الفقهية او الاخلاقية،... ويظل التوفر على (الفن) ثانوياً: تفرضه – ايضاً- متطلبات خاصة... فاذا كان الامام علي (عليه السلام) اتيح له ان يضطلع بشؤون العلم والفن على نحو متوازن،.... فان الامام السجاد (عليه السلام) اتيح له ان يتوفر على (الفن) من خلال (الادعية)،... بينا أتيح للامامين الباقر والصادق عليهما السلام ان يتوفرا على (العلم) وان يجيء(الفن) عندهما في سياقات خاصة،... وهكذا. لذلك فان الامام الجواد (عليه السلام) - عبر الظروف الاجتماعية التي كان يحياها- أتيح له ان يتوفر على نمط خاص من الحركة العلمية المتمثلة في (المناظرات) او (المقابلات) التي اشرنا اليها....
واما (الفن) فلا يتحرك من خلاله الا في سياقات تتطلب مثل هذا التحرك، وهو امر سبق ان اكدناه من ان المعصوم (عليه السلام) - النبي (صلى الله عليه وآله) والائمة (عليهم السلام)- لا يعنى بالفن - مثل سائر الناس- من حيث كونه (فناً) بقدر ما يعنى به (وسيلة) فحسب، فاذا تطلب الموقف صياغة فنية (تعتمد الصورة والايقاع ونحوهما)، حينئذ يتوكأ على مثل هذه الصياغة التي لا تكلفه ادنى جهد مادامت المعرفة (بكل مستوياتها) تظل عند المعصوم امراً (يلهم) به كما هو واضح... واي كان الأمر، يحسن بنا ان نعرض لبعض النماذج المأثورة عن الامام الجواد (عليه السلام) فيما يتصل بالاحاديث والرسائل ونحوهما...
*******