الجديد والمُفاجئ في هذا الاتّصال الذي لفَت نظرنا، وربّما الكثير من المُراقبين غيرنا نُقطتين مُهمّتين:
الأوّل: الاتّفاق على قمّةٍ ثلاثيّةٍ خامسة للدول الضّامنة لعمليّة “أستانة” تُعقد في 16 أيلول (سبتمبر) المُقبل في موسكو أو سوتشي نفسها، أيّ قادة روسيا وإيران وتركيا للنّظر في قضايا تسوية الأزمة السوريّة بِما في ذلك العمل على تشكيل اللّجنة الدستوريّة المُكلّفة بوضع دستور جديد وبمُشاركة شخصيّات من مُختلف ألوان الطّيف السوري الحُكومي والمُعارض.
الثانية: اتّفاق الرئيسين الروسي والتركي في هذا الاتّصال “على تفعيل الجُهود المُشتركة بهدف التخلّص من “التّهديد الإرهابي” القادم من تلك المِنطقة، أيّ إدلب، والجماعات المسلّحة المُسيطرة عليها.
النّقطتان المذكورتان آنفًا على درجةٍ كبيرةٍ من الأهميّة، وخاصّةً الثانية التي تُؤكّد الاتّفاق على التخلّص من التهديد الإرهابي، والمقصود هُنا هيئة تحرير الشام، (النصرة سابقًا)، والفصائل المُتحالفة معها، والقريبة من القيادة التركيّة مِثل حركة أحرار الشام، المُصنّفة على قائمة الإرهاب من قبل روسيا والولايات المتحدة والدولة السوريّة بطبيعة الحال.
البند الرئيسي والمُتوقّع أن يتصدّر جدول أعمال القمّة الثلاثيّة المُقبلة سيكون كيفيّة ترجمة الاتّفاق الهاتفي الثّنائي الروسي التركي إلى خطواتٍ عمليّةٍ على الأرض، ووضع الآليّات اللّازمة لتنفيذه سياسيّة كانت أو عسكريّة.
هُناك عدّة خِيارات يُمكن أن تكون مطروحةً على مائدة المُباحثات أحلاهما علقم بالنّسبة إلى الرئيس التركي والفصائل المُصنّفة على قائمة الإرهاب بقيادة هيئة تحرير الشام (النصرة).
الأوّل: أن تُقدِم جبهة النصرة على حل نفسها، وتسليم أسلحتها إلى لجنة ثلاثيّة مُشتركة، والثّقيلة منها على وجه الخُصوص، والتحوّل إلى حركةٍ سياسيّةٍ تنخرِط في “منظومة سوتشي” بضمانات روسيّة تركيّة إيرانيّة.
الثاني: أن تنأى السلطات التركيّة بنفسها كُلِّيًّا عن هذه الفصائل، وتُعطي الضّوء الأخضر للقوّات الروسيّة والسوريّة لاقتحام المدينة وإنهاء سيطرة جبهة النصرة عليها مهما كان الثّمن في حال رفضت الأخيرة تسليم سِلاحها وحلّ نفسها.
الثالث: أن يتم إعطاء مُهلة للرئاسة التركيّة لبضعة أسابيع، على غِرار مُهلة مُماثلة جرى الاتّفاق عليها ومدّتها شهر، في قمّة سوتشي في أيلول (سبتمبر) عام 2018، ولم يفِ الجانب التركي بالتِزاماته في هذا الصّدد.
من الصّعب علينا ترجيح أيّ من الخِيارات الثلاثة، فما زال الاتّفاق الثنائي الروسي التركي “طري العود”، ولم يمضِ على التوصّل إليه إلا ساعات قليلة، ولكن في ظِل تسريبات عديدة صدرت عن بعض أوساط المُعارضة السوريّة القريبة من الرئاسة التركيّة طالبت جبهة النصرة (الارهابية) بحلّ نفسها والتحوّل إلى منظّمة سياسيّة، نميل إلى ترجيح الخِيار الأوّل لأنُه الأقل كلفةً، ولكنّ الكلمة الأخيرة ستكون لقادة هذه الجبهة وبعد التّشاور مع داعميها.
فالخِيار الثاني، أيّ اللّجوء إلى الحل العسكري من قبل الجانبين السوري والروسي لاستعادة مدينة إدلب إلى سيادة الدولة السوريّة بالقوّة مثلما جرى في المناطق الأخرى، سيكون باهظ التّكاليف إنسانيًّا، خاصّةً أنّ الحُدود التركيّة مُغلقةً بإحكام أمام سكّان المدينة الذين يقترب عددهم من الثلاثة ملايين، ووجود أكثر من 60 ألف مسلّح قد يُقاتلون حتى الموت، ولعلّ قرار الحُكومة السوريّة بفتح ممرّات آمنة للمدنيين إلى مناطقها أحد الحُلول لتّخفيف مأساة هؤلاء.
لا نعتقد أنّ السلطات التركيّة ستقبل بهذا الخِيار، أيّ الحل العسكري، لأنّها ستكون الخاسِر الأكبر، فالمُوافقة عليه سيعني اتّهامها من قبل حُلفائها بالتّواطؤ، ومُعارضته تعني الدخول في مُواجهةٍ عسكريّةٍ غير مضمونة النتائج مع حليفها الروسي، وتدفّق مِئات الآلاف من المدنيين والمُسلّحين بكامل عتادهم إلى أراضيها في وقت تضيق ذرعًا بأكثر من 3.5 مليون لاجِئ سوري باتوا يشكّلون عبئًا سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا عليها، ولا تعرِف كيف تتخلّص منهم.
الوضع الحالي في إدلب يقترب من نهايته، وأيًّا كان الخِيار الذي تختاره تركيا، أو حليفها أبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام، الذي تخلّى عنه مُعظم داعميه، إن لم يكُن كلهم، وتركوه يُواجه مصيره لوحده.
الرئيس بوتين طفَح كيله، وكانت الهجَمات التي استهدفت قاعدة “حميميم” الجويّة الروسيّة قبل شهرين بالطائرات المُسيّرة المُلغّمة والصّواريخ هي “القطرة” الحاسِمة وراء طوفان غضبه، ولا نعتقِد أنّه سيقبل بأيّ اقتراحات بتأجيل الحسم، أو المُماطلة لعامٍ آخر يُقدّمها الجانب التركي في قمّة سوتشي المُقبلة، خاصّةً في ظِل التقدّم المُتسارع الذي يُحقّقه الجيش العربي السوري في هُجومه الحالي.. واللُه أعلم.
عبد الباري عطوان - راي اليوم