السيد محمد بحر العلوم
لم يرغب عمرو بن العاص أن يسلم أحد من صحابة علي (عليه السلام) ورجال مدرسته، فقد كان يكره بيت أبي طالب كرهاً لا هوادة فيه، وقد دفعه هذا الحقد أن يروي مرةً حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يضعه دون حياء، فيقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله، وصالح المؤمنين .
ولم يكن هذا فحسب، بل كان يتحرى الفرصة؛ لينقض على أبي الحسن (عليه السلام)، ويدخل ذات يوم على عائشة، فيقول لها: لوددت أنك كنت قتلت يوم الجمل.
فقالت: ولم . لا أبا لك؟ فقال: كنت تموتين بأجلك، وتدخلين الجنة، ونجعلك أكبر تشنيع على علي .
وتمادى عمرو في تتبع أصحاب علي (عليه السلام) لدى معاوية؛ ليقطع آثارهم، ويضع الأحاديث، لينقص من شأن علي، ومع هذا وذاك، فإنه يعرف علياً حق المعرفة، إذ يقول مرةً لمعاوية: أحرقت كبدي بقصصك، أترى أنا خالفنا علياً لفضلٍ منا عليه؟ لا والله إن هي إلا الدنيا نتكالب عليها، وأيم الله، لتقطعن لي قطعةً من دنياك، أو لأنابذنك. فأعطاه معاوية مصر وسكت.
هكذا كان عمرو، وكان أكثر من هذا.. وأرق ابن العاص أن يبقى رجال من أصحاب علي (عليه السلام) لم يصابوا بسوءٍ، ومنهم أبو الأسود الدؤلي، فهو من المخلصين لعلي والمتفانين بمحبته، ومن زعماء شيعته، فرسم له خطة؛ ليوقعه عند معاوية ويتخلص منه، واستأذن على معاوية في غير وقت سمره، ودخل عليه، فقال له معاوية: ما أعجلك قبل وقت السمر!
يا أمير المؤمنين، إن الأمر الذي أتيت من أجله، أوجعني وأرقني وغاظني، وهو نصيحة لك .وطغى على معاوية شيء من الاهتمام والجد، وحملق في وجه ابن العاص متسائلاً: وماذا ذاك يا عمرو؟
قال، وهو يمسح العرق الذي غطى جبهته، وعلى عينيه جذوة حقد؛ يا معاوية، إن أبا الأسود رجل مفوهٌ، له عقل وأدب، ومن مثله للكلام يذكر، وقد أذاع بمصرك من الذكر لعلي، والبغض لعدوه، وقد خشيت عليك أن يسترسل في ذلك حتى يؤخذ لعنقك.
وقد رأيت أن ترسل إليه، وترهبه، وترعبه، وتسيره وتخيره، فإنك من مسألته على أحد أمرين: إما أن يبدي حبه وتشيعه لعلي، فينكشف أمره، وترى فيه رأيك، وإما أن يجاملك، فيقول ما ليس من رأيه، فتستفيد من قوله.
وغام معاوية في تفكيرٍ، فإنه لا يرغب في إثارة موضوعٍ جديدٍ عليه، وأبو الأسود رجل عرف بالثبات والجرأة والصمود، فلا تغره سيوف السلطان، كما لا تفل عزيمته أموال بني أمية.
لكن عمرو بن العاص يلح على أبي يزيد، ويقول له: أنا صاحبك يوم رفع المصاحف بصفين، وقد عرفت رأيي وإخلاصي لك، أقدم على ذلك، ولا يرهبك الموقف، ولم يبق من هذه الزمرة المجافية لمجد بني عبد شمس إلا فلولٌ، وسوف تنهار عن قريب..
أليس القائل أبوك يوم دخل على عثمان، وهو لا يبصر طريقه: هل في المجلس من يخشى منه؟ فقيل له: أبداً، فقال: اللهم اجعل الأمر أمر جاهلية، والملك ملك غاصبية، واجعل أوتاد الأرض لبني أمية ..فمن تخشى؟! لقد دانت لك القبائل، وأسكت الأبطال وقبرت الفصحاء، ثم انتهيت إلى أبي الأسود فتجنبت أمره؟ ولم يزل به حتى أقنعه، فأرسل خلفه، وجاءت الجلاوزة بأبي الأسود، وأدخل عليه.
فرحب به معاوية، وأجلسه منه مجلساً لائقاً، ثم التفت إليه قائلاً: يا أبا الأسود، خلوت أنا وعمرو فتناجزنا في أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد أحببت أن أكون من رأيك على يقينٍ؟
فقال أبو الأسود: سل ما بدا لك.
واعتدل معاوية في مجلسه، وقبض ابن العاص على لحيته يسرح بها، وعيناه تقدحان شرراً. قال معاوية: يا أبا الأسود، أيهم كان أحب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
فقال الدؤلي: أشدهم حباً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أوقاهم له بنفسه. فنظر معاوية إلى عمرو، وأشار إليه برأسه، وعاد إلى سؤاله قائلاً: يا أبا الأسود، فأيهم كان أفضلهم عندك؟
قال الدؤلي: أتقاهم لربه، وأشدهم خوفاً لدينه.
فاغتاظ معاوية، وانتشرت على سحنته كآبةٌ، وسر ابن العاص لذلك، فإن الذي كان يتطلبه، هو أن يوقع الدؤلي في الفخ، وهو منه لقريب.
ـ ثم التفت معاوية إلى أبي الأسود قائلاً: فأيهم كان أعلم؟
ـ قال أبو الأسود: أقولهم للصواب، وأفصلهم للخطاب.
ـ وأيهم كان أشجع؟ـ أعظمهم بلاءً، وأحسنهم عناءً، وأصبرهم على اللقاء.
ـ فأيهم كان أوثق عند الرسول؟
ـ من أوصى إليه فيما بعده.
ـ فأيهم كان صديقاً للنبي؟
ـ أولهم به تصديقاً.
فأقبل معاوية بوجهه إلى عمرو بن العاص، وهو متأثر، قائلاً: لا جزاك الله خيراً، هل تستطيع أن ترد على ما قال شيئاً؟!
وخيم على المجلس صمتٌ برهةً من الوقت، ثم بدده صوت أبي الأسود يخاطب معاوية: يا أبا يزيد، إني قد عرفت من أين أتيت، فهل تأذن لي فيه؟ قال: نعم، فقل ما بدا لك.
فقال: إن هذا الذي ترى، هجا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأبياتٍ من الشعر، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم إني لا أحسن أن أقول الشعر، فالعن عَمراً بكل بيتٍ لعنة، أفتراه بعد هذا نائلاً فلاحاً، أو مدركاً رباحاً؟.. وأيم الله، إن امرءاً لم يعرف إلا بسهمٍ أجيل عليه فجال، لحقيقٌ أن يكون كليل اللسان، ضعيف الجنان، مستشعراً للاستكانة، مقارناً للذل والمهانة، غير ولوجٍ فيما بين الرجال، ولا ناظر في تسطير المقال، إن قالت الرجال أصغى، وإن قامت الكرام أقعى، متعيص لدينه لعظيم دينه، غير ناظر في أبهة الكرام، ولا منازع لهم، ثم لم يزل في دجةٍ ظلماء مع قلة حياء، يعامل الناس بالمكر والخداع، والمكر والخداع في النار.
ولم يتمكن ابن العاص من تحمل هذا الكلام القارص، بل هاجم أبا الأسود قائلاً: يا أخا بني الدؤل، والله إنك لأنت الذليل القليل، ولولا ما تمت به من حسب كنانة، لاختطفتك من حولك اختطاف الأجدل الحدية، غير أنك بهم تطول وبهم تصول، فلقد استطبت مع هذا لساناً قوالاً، سيصير عليك وبالاً، وأيم الله، إنك لأعدى الناس لأمير المؤمنين قديماً وحديثاً، وما كنت قط بأشد عداوةً له منك الساعة، وإنك لتوالي عدوه، وتعادي وليه، وتبغية الغوائل، ولئن أطاعني ليقطعن عنه لسانك، ولنخرجن من رأسك شيطانك، فأنت العدو المطرق له إطراق الأفعوان في أصل الشجرة.
ونطت عيون ابن العاص، واضطرب المجلس، ثم واصل حديثه قائلاً: ألست أنت القائل:
وإن علياً لكم مصحر يماثله الأسد الأسود
أما إنه أول العابدين بـمكة والله لا يعبد
ولاحظ معاوية أن الجو قد تكهرب، فأسكت ابن العاص، والتفت إلى أبي الأسود قائلاً: أغرقت في النزع، ولم تدع رجعةً لصلحك. ثم التفت إلى عمرو مخاطباً: فلم تغرق كما أغرقت، ولم تبلغ ما بلغت، غير أنه كان من الابتداء والاعتداء، والباغي أظلم، قوما غير مطرودين.
فقام ابن العاص، وهو يقول:
لعمري لقد أعيا القرون التي مضت نـعش ثـوى بـين الـفؤاد كمين
وقام أبو الأسود، وهو يقول:
ألا إن عـمـراً رام لـيث خـفيةٍ وكـيف يـنال الـذئب ليث عرين
وانفض مجلس معاوية، وفي قلب ابن العاص أكثر من حقد يغلي على أبي الأسود، وقد فشل في مخططه، فقد كان يود أن يوقع بصاحب علي، ويفري أوداجه بسيف معاوية، لكن القدر لم يعثر في هذه المرة، فقد كان لأبي الأسود قلب نابض، وإيمان صلد، فلم يهتم عندما جد الجد أن يقول كلمته مهما كلفه الأمر.
وكلمة الحق في ساعة المحنة، كلمة الرجل الصادق المؤمن المجاهد في سبيل عقيدته.
*من كتاب "مدرسة الإمام علي (عليه السلام)".