لم تعد غرف الأخبار بالصحف العالمية والإقليمية تخلو من خبر عن دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي في أغلب الأحوال أخبار سلبية تتعلق إما بتدخل الإمارات في حرب هنا، أو تورطها في كارثة هناك، أو دعمها لمجرم حرب، أو مساندتها لحاكم مستبد!
وقد ارتبط صعود اسم الإمارات واحتلاله مكانة خاصة في غرف الأخبار بدعمها لانقلاب مصر عام ٢٠١٣، الذي غيّر موازين القوى في الشرق الأوسط، وكان بمثابة ضربة قاصمة لموجة الربيع العربي.
فمنذئذ تسعى الإمارات إلى أن تصبح لاعباً إقليمياً نافذاً، وذلك عبر انتهاج دبلوماسية جريئة وصاخبة غير معهودة على هذه الدولة الصغيرة التي كانت واحة للهدوء السياسي لعقود.
وذلك في قطيعة تامة مع إرث مؤسس الدولة الشيخ زايد بن سلطان الذي كان يتبع الدبلوماسية الهادئة في بناء دولته منذ السبعينيات وحتى وفاته عام 2004. وهي نفس الإستراتيجية التي استمرت بعض الوقت مع تولي ابنه الأكبر الشيخ خليفة بن زايد قبل أن يتم تهميشه لمرضه، ويصبح ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد الحاكم الفعلي للبلاد ومدير سياستها الداخلية والخارجية منذ حوالي عقد.
ويبدو أن محمد بن زايد يعتقد أن بإمكانه بناء إمبراطورية كبرى تمتد من الخليج (الفارسي) إلى المغرب العربي، وذلك عبر استخدام أداتيْ المال والسلاح على الطريقة الكلاسيكية لأمراء الحرب.
وقد اتضح ذلك بشكل كبير بعد ثورات "الربيع العربي"، خوفاً من انتقال عدواها إلى شواطئ الخليج(الفارسي) والإطاحة بالعائلة الحاكمة.
وقد ترافق ذلك مع انهيار معادلة التوازن الإقليمي القديمة التي كانت تجمع محور "الاعتدال" بحسب الصيغة الأميركية، الذي ضم إلى جانب أبو ظبي كلا من الرياض والقاهرة وعمّان، في مواجهة محور الممانعة الذي كان يضم سوريا وإيران وبعض الفاعلين ما دون الدولة مثل "حزب الله" اللبناني وحركة "حماس" الفلسطينية.
ومما زاد قلقَ أبو ظبي تبني الدوحة للثورات العربية ودعمها إعلامياً من خلال قناة "الجزيرة" التي كانت منصة للمتظاهرين والثوار العرب. لذا؛ بدأت "أبو ظبي" في التحرك سريعاً لاحتواء آثار "الربيع العربي" وتقليل تداعياته بكل الطرق.
وتم ذلك من خلال وضع إستراتيجية تقوم على ثلاثة محاور: أولها؛ السعي لإجهاض الثورات العربية خاصة في أهم وأكبر مراكزها وهو مصر، وذلك عبر التحالف مع القوى القديمة ودعمها بالمال والإعلام والدبلوماسية.
وثانيها؛ تحقيق اختراق سياسي للدول المركزية في المنطقة ومحاولة التأثير في سياساتها الخارجية بشكل يتناغم مع الأهداف الإماراتية. ولذا؛ فقد كان التركيز على مصر أولاً، والسعودية لاحقاً.
وثالثها؛ حصار مراكز دعم وتأييد "الربيع العربي" للتخلص منها، وخاصة تركيا وقطر.
ومن أجل ضمان نجاح هذه الإستراتيجية؛ كان علي أبو ظبي أن تضمن أمرين: أولهما؛ تحييد الموقف الأميركي تجاه تحركاتها في المنطقة، وذلك قبل تجييره لصالحها لاحقاً. وثانيهما؛ الاستثمار الهائل في مراكز القوى الجديدة في مصر والسعودية من أجل السيطرة على قرارهما.
بالنسبة للمحور الأول في الإستراتيجية؛ قامت أبو ظبي بالتخطيط والتجهيز والإعداد لانقلاب 3 يوليو/تموز 2013 في مصر عبر ضخ مليارات الدولارات، وشراء كل ما ومن هو قابل للشراء من أجل دعم إستراتيجيتها لقلب الأوضاع السياسية في مصر لصالحها، وذلك أملاً في الهيمنة على قرار القاهرة السياسي لاحقاً وهو ما تحقق.
فقد استغلت أبو ظبي الأخطاء الفادحة لجماعة "الإخوان المسلمين" وبقية القوى السياسية وفشلهم في إدارة خلافاتهم السياسية، وذلك من أجل التمهيد لعودة العسكر إلى السلطة. فقامت بتشكيل حركة "تمرد" ومدها بالمال والدعم الإعلامي، وقامت بشراء ولاءات المؤسسات الإعلامية والصحفية في مصر، من أجل شيطنة الثورة المصرية ومساعدة النظام الجديد على قمعها والإجهاز عليها.
وبالنسبة للمحور الثاني؛ فقد نجحت أبو ظبي في السيطرة - ولو مؤقتا - على صانعي القرار في كل من مصر والسعودية. في الأولى (مصر) تم ذلك من خلال تقديم كافة أشكال الدعم السياسي والدبلوماسي والمالي والاقتصادي للنظام الجديد وضمان بقائه، ومولت كل حملاته الترويجية خارجياً عبر أذرع إعلامية ودبلوماسية نشطة.
وقد كشفت التسريبات العديدة للسفير الإماراتي في واشطن يوسف العتيبة عن حجم النفوذ الذي يتمتع به الرجل في دوائر سياسية ودبلوماسية وبحثية وإعلامية أميركية، واستخدامه لهذا النفوذ من أجل دعم وتسويق نظام السيسي خلال الأعوام الماضية.
وقد استخدم العتيبة كل الأساليب المتاحة من أجل شراء ولاءات سياسيين ودبلوماسيين وإعلاميين وباحثين، من أجل الاستعداد للمعركة المصيرية مع قطر، وذلك على نحو ما كشفته التسريبات.
أما في الثانية (السعودية)؛ فقد نجح بن زايد في الاستفادة من ارتباك المؤسسة الحاكمة في السعودية، خاصة فيما يخص ملف خلافة الملك سلمان بن عبد العزيز وتصعيد ابنه محمد بن سلمان لولاية العهد، عبر تحريضه للانقلاب على ولي العهد السابق محمد بن نايف. وقد تم ذلك بنوع من المباركة والتنسيق مع الأميركيين والإسرائيليين.
وبعد ذلك انتقلت أبو ظبي إلى المحور الثالث من إستراتيجيتها، وهو حصار قطر ومحاولة إرباك تركيا اقتصادياً، والتخلص من دورهما. وبعد أن فشلت فشلاً ذريعاً في تركيا بعد سقوط محاولة الانقلاب، انتقلت إلى قطر وذلك من خلال افتعال الأزمة معها، وسعيها الحثيث لتأليب وتحريض الإقليم والعالم عليها.
بيد أن السؤال المهّم هو: هل نجحت الإمارات في بناء حلمها الامبراطوري؟ الإجابة ببساطة هي: لا. فجميع حالات التدخل الإماراتي في بلدان الربيع العربي باءت بالفشل، وأدت إلى أثر عكسي أضرّ بالإمارات وصورتها عربياً ودولياً، ويبدو أن بن زايد يبني إمبراطورية من الرمل!
ففي السودان؛ رفضت القوى المدنية الانصياع للعسكر خاصة بعد فض اعتصام القيادة العامة بالقوة مما أدى إلى مقتل العشرات، وكشف الوجه القبيح للمجلس العسكري وخاصة الجنرال محمد حمدان (حميدتي).
وفي اليمن؛ بدا واضحاً أن لدى الإمارات أجندة خاصة هناك وليست مجرد حليف للسعودية، ولكن هذه الأجندة تتعثر كل يوم، ويزداد التورط العسكري الإماراتي في حرب لا فائدة ولا طائل من ورائها.
وقد شوّهت الحرب صورة الإمارات التي تحاول رسمها لنفسها باعتبارها منارة للتسامح في المنطقة، وذلك نتيجة للخسائر البشرية خاصة من الأطفال والتجويع الذي يتعرض له الشعب اليمني. ولعل ذلك ما يفسر الانسحاب الإماراتي وإعادة الانتشار في اليمن.
وفي مصر؛ رغم ما يبدو استقراراً سطحياً فإن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية تغلي ويمكنها أن تنفجر في أية لحظة. ولم تنل أبو ظبي سوى لعنات المصريين بسبب تدخلها في شؤونهم ودعم حكم العسكر هناك.
وفيما يخص ليبيا؛ فقد فشل حفتر حتى الآن في فرض سيطرته على ليبيا، وفشلت حملته العسكرية على طرابلس بعد مرور قرابة أربعة أشهر على انطلاقها، وذلك رغم الدعم العسكري والسياسي واللوجيستي الذي تقدمه له الإمارات ومصر والسعودية ودول أوروبية مثل فرنسا.
أما حصار قطر؛ فقد فشل فشلاً ذريعاً وخرجت منه قطر أكثر ثقة وتأثيراً في المنطقة. وقد فشلت كل محاولات الإمارات عزل قطر إقليمياً ودولياً، وخسرت المعركة الأخلاقية والسياسية معها.
وأخيراً فيما يخص إيران؛ دخلت المنطقة في أجواء تصعيدية كان آخرها حادث الهجوم على ناقلتيْ نفط في بحر عمان قبل أيام، والذي قد يتطور إلى مواجهة إقليمية.
يحب بن زايد أن تُوصَف بلاده بأنها "إسبرطة الصغيرة"، في إشارة إلى المدينة اليونانية التي حكمها العسكر وكانت تتبنى سياسة توسعية عبر الحرب، ولكنه لا يدرك أن الحروب والفوضى لم تعد الوسيلة الأكثر نجاعة للسياسة الخارجية، وإنما أكثرها فشلاً وضرراً على المدى الطويل، وربما عليه أن يقرأ بعضاً من تاريخ إسبرطة السلطوية الذي انتهى بهزيمة منكرة لصالح أثينا الديمقراطية.