الله اكبر ماذا الحادث الجلل!
فقد تزلزل سهل الأرض والجبل
ما هذه الزّفرات الصاعدات أسي
كأنّها شعل ترمي بها شعل!
ماللعيون عيون الدّمع جاريةً
منها تخدّ وذي الضّوضاء والزّجل
شهر دهي ثقليها منه داهية
ثقل النبي حصيد فيه والثقل
قامت قيامة أهل البيت وانكسرت
سفن النّجاة.. وفيها العلم والعمل
وارتجّت الأرض والسبع الشداد وقد
أصاب أهل السماوات العلي الوجل
لقد أومأت الأخبار والروايات إلي أمرين عظيمين:
الأوّل: هو هول المصيبة التي نزلت بالحسين وآل الحسين.
والثاني: هو أنّ أمد الحزن والبكاء علي السبط الشهيد سيمتدّ إلي العرض الأكبر، وأنّ العبرات ستبقي تسكب إلي اليوم الذي يقام فيه للحسين العزيز مأتمه العامّ حين يجمع الله الخلق في صعيد واحد، إذ الرزيّة هي رزيّة سيّد الأنبياء والرسل محمّد (صلي الله عليه وآله)، ورزيّة أهل بيته البررة، وفي مقدّمتهم ابنته فاطمة الزهراء صلوات الله عليها. أخرج الحافظ ابن المغازلي الشافعي في (مناقب الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام))، والحافظ الجنابذي الحنبلي ابن الأخضر في (معالم العترة) خبراً مرفوعاً من طريق الإمام علي (عليه السلام) أنّ النبيّ (صلي الله عليه وآله) قال: (تحشر ابنتي فاطمة ومعها ثياب مصبوغة بدم، فتتعلّق بقائمة من قوائم العرش وتقول: يا جبّار، احكم بيني وبين قاتل ولدي. فيحكم لا بنتي وربّ الكعبة).
وقد أخذ هذا الحديث الشريف: السيّد محمود الشيخاني المدنيّ في كتابه (الصراط السّوي في مناقب آل النبي)، وسبط ابن الجوزيّ الحنفيّ في كتابه (تذكرة خواص الأمّة)، والزرنديّ الحنفيّ في (نظم درر السمطين في فضائل المصطفي والمرتضي والبتول والسّبطين)، والقندوزيّ الحنفيّ في (ينابيع المودّة لذوي القربي)، واستشهدوا به علي صحّة قول الراوي سليمان بن يسار الهلاليّ - وهو تابعيّ ومن رجال الصحاح الستّة والمتّفق علي وثاقته عندهم - حيث قال: وجد حجر مكتوب عليه:
لا بدّ أن ترد القيامة فاطم
وقميصها بدم الحسين ملطّخ
ويل لمن شفعاؤه خصماؤه
والصّور في يوم القيامة ينفخ
نعم، أنّ المصيبة مازالت قائمة، ومتجدّدة، وهي مستمرّة وماضية نحو المستقبل دون أيّ توقّف أو انقطاع أو فتور، بل هي في تزايد وتصاعد واتـّساع والسعيد حقـّاً من تفاعل مع مصاب سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، بل والأسعد منه من بكي وأبكي، وساهم في إقامة المآتم، وأحيا ذكر الطفوف بلسانه وقلمه وحضوره وأمواله، وشارك في إعداد أسباب المواصلة، وهو في ذلك ذو رقّة وحزن علي صاحب المصيبة سيّد شباب أهل الجنّة، فإنّ للحسين (صلوات الله عليه) علي الناس حقوقاً عظيمةً وكثيرة، فقد فدي نفسه المقدّسة لهذا الدّين، ولو لا تضحياته العظمي لكنّا علي غير ملّة، الإسلام، بل ولأصبحنا علي خلاف منهج الحقّ والرسالة المحمديّة الشريفة، ولكان الناس في غفلات تلفّهم ضلالات وأوهام وأقاويل، فلا ينقلبون إلّا عن عميً ولا ينكفئون إلّا علي كفر وشكر وظلم وفساد، فسلام منّا للإمام الحسين مشفوعاً بآيات شكر عظيم عاجز عن أداء شيء، وسلام منّا للحسين الشهيد المظلوم مشفوعاً بآيات حزن ممتدّ عاجز عن وفاء بشيء، فالحسين (سلام الله عليه) هو السبب الكبير الذي جعلنا علي طريق الدين والتوحيد والفضيلة والأخلاق والإنسانية والحياة الكريمة، وذلك بعد تلك الملحمة العاشورائية التي بذل فيها (صلوات الله عليه) أغلي المهج وأزكي الدماء، وتحمّل فيها أعمق الأحزان وأحرّ الآهات وأشدّ الآلام، وذلك كلّه يدعو الغياري إلي شكر وعرفان بالجميل، يترجمان إلي لغة حزن وبكاء وعزاء جليل وهو إن حصل منا فسيكون أداء لبعض بعض حقوقه (سلام الله عليه) فهلمّوا معا - كما يقول الشيخ التستري - نبكي عليه لأداء حقوقه، فمن لا يبكيه لا عهد له ولا وفاء!
*******
ومن هنا نفهم شدة تأكيدات أهل بيت النبوة (عليهم السلام) علي إقامة المجالس الحسينية والمشاركة فيها، إذ أن فيها حياة الإسلام الحق وبقاء الرسالة المحمدية.
نتابع تقديم الحلقة الثالثة عشرة من برنامج تاريخ المجالس الحسينية بالاستماع معاً لما يقوله سماحة الشيخ صادق النابلسي مدير حوزة الامام الصادق بصيدا بلبنان:
الشيخ صادق النابلسي: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على اشرف خلق الله محمد وعلى اهل بيته الطيبين الطاهرين وعظم الله اجوركم جميعاً بمصاب ابي عبد الله الحسين عليه افضل الصلاة والسلام.
في الواقع عندما نعود الى الاحاديث والروايات الصادرة عن ائمة اهل البيت (سلام الله عليهم) نرى انها تؤكد وتدعو الى ضرورة اقامة العزاء الحسيني بأستمرار وهذا في الواقع لا يستند الى مسألة شخصية فالمسألة هنا اي مسألة اقامة واحياء عاشوراء وما يرتبط بها يؤكد على ان الواجب والتكليف هو هام ومسؤولية على كل المسلمين والمحبين لأهل البيت سلام الله تعالى عليهم بل هو واجب اسلامي قطعاً لأنهم يؤكدون من خلال هذا المعنى على وجوب احياء دين الله، على وجوب احياء الاسلام، على وجوب احياء الناس من هذه القوقعة والخروج الى افق الاسلام الرحب، العودة الى فهم الاسلام من جديد والى فهم الوقائع الاسلامية والى فهم التاريخ الاسلامي والى التواصل المباشر واللازم مع الاوفياء، مع الائمة سلام الله تعالى عليهم اذن هذه نقطة حساسة ومحورية في العلاقة والاتصال بين المؤمنين وائمتهم التي توصلهم بشكل تلقائي الى الله سبحانه وتعالى، ايضاً هناك مسألة هامة في هذا السياق وفي هذا المعنى ان احياء مجالس ابي عبد الله الحسين هي في الواقع فهم لما يحدث في الراهن والواقع من اشياء تتعلق بالظلم والجور والاستبداد والى ما هنالك، عندما نؤكد على هذا المعنى وعندما يؤكد اهل البيت سلام الله تعالى عليهم على احياء مجالس ابي عبد الله انما هم يرفضون الباطل، انما يؤكدون على الناس في رفض الظلم وعلى رفض الزيف وعلى رفض الفساد وعلى احياء سنة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا طريق واجب وليس طريقاً خاصاً، هنا مسألة اكيدة على وجوب تبيان الدين، على اظهار الدين، على وجوب نشر الدين وعلى ان الدعوة عامة لكل الناس وعلى وجوب مواجهة ومقارعة الفساد والظلم الذي ليس محصوراً في زمن دون زمن وانما هو مستمر في عمود التاريخ لذلك نحن نفهم من هذا التأكيد العودة الى الدين، احياء الدين بمعانيه السامية ومبادئه ومنطلقاته العالية وايضاً ان نعيش المصاب وان نفهم هذه المعاني التي قام من اجلها الامام الحسين سلام الله تعالى عليه وضحى بدمه وروحه واولاده واصحابه فداءاً للاسلام وفداءاً للعقيدة، نفهم هذه المعاني حتى نعيشها في واقعنا الحالي وحتى تكون لنا ما كان للحسين من ألم وصبر وجراح وتحمل وتسليم لقضاء الله سبحانه وتعالى.
*******
أجل، وإذا كان للدموع معني وعنوان مشهور، فيقال بأنها قطرات تتحدّر حزناً، أو أسفاً، فإنّ هنا لك بكاء يكون للتبعية، يمكن أن يعنون بأنّه سنّة نبويّة طاهرة شريفة، فنبكي نحن - إن كنّا ماضين علي خطي رسول الله - للحسين كما بكاه هو (صلي الله عليه وآله)، فمثل رسول الله المصطفي الأكرم (صلي الله عليه وآله وسلم) يبكي لشخص، وهو سيّد الكائنات وأشرف الرسل والأنبياء، لابدّ أن يكون المبكي عليه وجوداً مقدّساً، ولابدّ أنّ بكاءه (صلي الله عليه وآله) كان أمراً مقدساً، وقد بكي الحسين مراراً وبمرارة! يعالج بذلك لوعته علي حبيبه الحسين ثمرة فؤاده، ويطفئ ببكائه بعض لهيب لهفته عليه، ويخفف بعض نائرة حزنه وشوقه إليه، فيضمّه إلي صدره مرّة، ويشمّه ويقبّله مرّة، ويسكب عبرته مرّةً أخري.
روي الطبرانيّ في ( معجمع) أنّ رسول الله (صلي الله عليه وآله) قال لنسائه: (لا تبكوا هذا الصبيّ) - يعني حسيناً.
قال الراوي - وهو أبو أمامة -: وكان يوم أمّ سلمة، فنزل جبريل فدخل علي رسول الله، فقال (صلي الله عليه وآله) لأمّ سلمة: لا تدعي أحداً يدخل عليّ. فجاء الحسين وأراد أن يدخل، أخذته أمّ سلمة فاحتضنته وجعلت تناغيه وتسكته، فلّما اشتدّ في البكاء خلّت عنه، فدخل حتـّي جلس في حجر جدّه النبيّ (صلي الله عليه وآله)، فقال جبريل (عليه السلام): إن أمتّك ستقتل ابنك هذا.
فقال النبي: يقتلونه وهم مؤمنون بي؟!
قال: نعم، يقتلونه!
فتناول جبريل تربة وقال: بمكان كذا وكذا.
فخرج رسول الله (صلي الله عليه وآله) وقد احتضن حسيناً، كاسف البال مهموماً، فظنّت أمّ سلمة أنّه غضب من دخول الصبّي عليه، فقالت: يا نبي الله، جعلت لك الفداء، إنّك قلت لنا: لا تبكوا هذا الصبّي، وأمرتني أن لا أدع أحداً يدخل عليك، فجاء فخلّيت عنه. فلم يردّ عليها، فخرج إلي أصحابه وهم جلوس، فقال: (إنّ أمّتي يقتلون هذا).
فقيل له: يا نبي الله، يقتلونه وهم مؤمنون؟!
قال: نعم، وهذه تربته، فأراهم إيّاها. ذكره أيضاً الحافظ الهيثمي الشافعيّ في (مجمع الزوائد)، والحافظ الدمشقي الشافعيّ ابن عساكر في (تاريخ مدينة دمشق) وفيه: أنّ جبريل دنا من النبيّ (صلي الله عليه وآله) فقال: أتحبّه يا محمّد؟
قال: نعم.
فقال: إنّ أمّتك ستقتله، وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها.
فأراه إيّاها، فإذا الأرض يقال لها: كربلاء!
وهذه الواقعة نموذج للمآتم الحسينية التي كان رسول الله (صلي الله عليه وآله) يقيمها لأصحابه لكي تكون سنة من بعده تستمر الي يوم القيامة حافظة نهجه الأصيل وشريعته الحقة.
*******