قد أوهنت جلدي الدّيار الخالية
من أهلها .. ما للديّار وما ليه؟!
ومتي سألت الدّار عن أربابها
يُعد الصّدي منها سؤالي ثانيه
كانت غياثاً للمَنوب، فأصبحت
لجميع أنواع الرّزايا حاوية
ومعالمٌ أضحت مآتم لا تري
فيها سوي ناعٍ يجاوب ناعية
ولقد دَعَوه لِلعَنا .. فأجابهم
ودعاهم لهديً .. فَرَدّوا داعيه
قست القلوب فلم تمل لهدايةٍ
تبّاً لهاتيك القلوب القاسية
ما ذاق طعم فُراتهم حتّي قضي
عطشاً .. فغسّل بالدماء القانية
يا ابن النبيّ المصطفي، ووصيّه
وأخا الزّكي ابن البتول الزاكية
تبكيك عيني لا لأجل مَثوبة
لكنّما عيني لأجلك باكية
تبتلُّ منكم كربلا بدمٍ ولا
تبتلّ منّي بالدموع الجارية؟!
السلام عليكم ورحمة الله بركاته، وأحسن الله لكم الأجر والثواب علي تلك العواطف الطيّبة الموالية لسيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين (سلام الله عليه)، وعلي تلك الدموع الموالية لأهل بيت الرسالة والنبوّة.
إنّ البكاء في الغالب، مُعبّرٌ عن حالةٍ إنسانيةٍ طيبة، ومشاعَر رقيقةٍ نبيلة، فيها: الحزن والشوق، والمواساة والحنين، فإذا توجّه ذلك إلي أمرٍ راجح لم يخلُ أن يكون البكاء فيه من عنوانٍ عباديٍّ يُوجرُ المرءُ عليه. فقد يبكي رحمة ً بالأطفال والمساكين، وقد يبكي خشيةً من ربّ العالمين، أو شوقاً إلي مشاهد الحجّ المشرّفة ومراقد الأنبياء والأوصياء والأولياء، يحبّ أن يتعاهد أضرحتهم، ويُجدّد عن قربٍ عهد الولاء معهم، ويتقرّب إلي الله تعالي بزيارتهم. وقد يبكي المرء علي مصائبهم ونكباتهم، وما جري من المظالم عليهم، وما تحمّلوه طاعةً لله تعالي ونصرةً لدينه وشرعه، من تضييقٍ وإيذاءٍ وحبسٍ وتشريد وقتل، كما جري علي أهل البيت صلواتُ الله عليهم. فيكون البكاء عليهم بذلك سبباً للثواب والمغفرة، والقرب من الله تعالي ورضوانه، ونوال رأفته وجنانه وفي الوقت ذاته، يكون البكاء هنا صورةً مواساتيّة، وحالةً ولائيّة، تعبّران كلاهما عن التعاطف الإيمانيّ العقائدي.
في (غَوالي اللّآلي) لابن أبي جمهور الإحسائيّ، و(تفسير القمّي) عليّ بن إبراهيم وغيرهما، عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال:
كان عليُّ بنُ الحسين (عليه السلام) يقول: «أيَّما مؤمنٍ دمعت عيناه لقتل الحسين (عليه السلام) حتّي تسيل علي خَدَّيه، بوأه الله بها غُرَفاً يسكنها أحقاباً. وأيّما مؤمنٍ دمعت عيناه حتّي تسيل علي خدّه فيما مسّنا من الأذي من عدوّنا في الدنيا، بوّأه الله مبوّأً صدق».
ويرقي المؤمن الموالي، حتّي أنّه يبكي حُبّاً وولاءً لآلِ الله، لم يقصد في بكائه ثواباً، وإن كان الثواب حاصلاً من بكائه برحمة الله وحسن جزائه، لكنّه لا يجد نفسه إلّا أنها تبكي لأقلّ ما تسمعه ممّا جري علي أهل البيت النبويّ من ظلمٍ وإيذاء، ويبكي كذلك متأسّياً برسول الله، ومواسياً له وقد بكي (صلي الله عليه وآله) علي أهل بيته في حياته وحياتهم، لما أخبر بما سينزل عليهم من النكبات، وبكي عليهم بعد شهادته وشهادتهم، لما نزل عليهم من المصيبات.
*******
المحاور: وقد تأسي بالنبي الأكرم (صلي الله عليه وآله) بعض صحابته الأخيار فأقاموا - في الواقع - مجالس لرثاء الحسين وبكوه (عليه السلام) كما روت المصادر التأريخية، فما هي ابرز خصائص هذه المجالس؟ الاجابة نجدها في الفقرة التالية وهي حديث هاتفي لسماحة الشيخ محمد الشوكي الباحث الاسلامي من قم المقدسة:
الشيخ محمد الشوكي: اعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلي على محمد وآل محمد.
الحقيقة المجالس الحسينية والمآتم الحسينية موغلة في القدم وبعد استشهاد الامام الحسين صلوات الله وسلامه عليه اقيمت له المآم والمجالس لرثاءه صلوات الله وسلامه عليه وكانت تلك المجالس التي يقيمها الناس، اصحاب الائمة صلوات الله وسلامه عليهم بأشراف من الائمة وبدعوة من الائمة (عليهم السلام) فنرى الائمة (عليهم السلام) بالاضافة الى انهم كانوا يقيمون المآتم في بيوتهم للحسين عليه السلام كانوا يأمرون اصحابهم ويحثون اصحابهم على ان يقيموا المآتم لأبي عبد الله الحسين (عليه السلام) كما نقرأ في الرواية عن الامام الصادق (عليه السلام) عندما قال لبعض اصحابه: "أتجلسون وتتحدثون؟
قال: نعم.
قال: احيوا امرنا رحم الله عبداً احيا امرنا".
فكان الائمة (عليه السلام) يحثون الناس على اقامة مآتم ومجالس احياء امر اهل البيت سلام الله عليهم والتي كان يشكل الحسين (عليه السلام) وقضية الحسين الاساس لها فالمجالس في ذلك الزمان كانت تختلف بعض الشيء عن هذه المجالس التي نقيمها نحن اليوم ولكن الاختلاف انما هو في الشكل وفي بعض المظاهر وفي بعض الشعائر وليس الاختلاف في الجوهر والاختلاف في الاساس فالاساس واحد بين المجالس التي نقيمها اليوم والتي يقيمها اصحاب الائمة صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين، الاساس هو احياء امر اهل البيت (عليهم السلام) بما يتضمن هذا الامر من ذكر فضائلهم وذكر مناقبهم وتداول احاديث اهل البيت المتضمنة لأفكارهم وتعاليمهم صلوات الله وسلامه عليهم وهذا الامر موجود الى اليوم يعني يمثل عنصراً مشتركاً بين المجالس، اليوم كذلك المجالس واحياء امر اهل البيت اساس المجالس الحسينية يتداول فيها حديث اهل البيت ومناقب اهل البيت وفضائل اهل البيت وما الى ذلك، كذلك مثلاً انشاد الشعر في اهل البيت وفي الحسين (عليه السلام) بالذات لأن قضية الحسين (عليه السلام) هي القضية الاساسية في المآتم فأنشاد الشعر هو ايضاً من العناصر المشتركة، اليوم لازال الناس ينشدون الشعر في مجالس اهل البيت وانشاد الشعر وقراءة الشعر يمثل عنصراً مشتركاً بين مجالس اليوم ومجالس الامس حتى بالنسبة لما يرتبط بطريقة الالقاء، اليوم الاشعار، اشعار الرثاء تقرأ بطريقة عزائية ورثائية وبصوت خاص وبطريقة خاصة، حتى في ذلك الزمان في زمان اهل البيت (عليهم السلام) وصحابة اهل البيت (عليهم السلام) كان الائمة يحثونهم، يحثون اصحابهم على ان يقرأوا الشعر والرثاء بطريقة رثائية بكائية عزائية وكان الامام الصادق (عليه السلام) يقول لبعضهم لما انشده بعض ابيات الشعر قال "اقرأها بالرقة" او كما تنشدون في المكان الفلاني فكانوا يريدون ايضاً ان تنشد الابيات في رثاء الحسين بطريقة خاصة حتى تستدر الدموع والعاطفة وكذلك المجالس السابقة فيها هذا العنصر وهو عنصر مشترك بين المجالس على طول التاريخ، عنصر انشاد الشعر وانشاده بطريقة عزائية رثائية. كذلك ايضاً من تلك المآتم، من سمات تلك المآتم وهو ايضاً العناصر المشتركة بين مجالس اليوم ومجالس الامس ذكر قصة كربلاء وما جرى في كربلاء، اليوم تقرأ بطريقة المقتل، في السابق ربما قد لاتكون تقرأ بهذا الشكل ولكنها كانت تذكر يعني ذكر قصة الحسين وقصة استشهاد الامام الحسين وماجرى في كربلاء على اهل البيت (عليه السلام) قبل يوم العاشر، في يوم العاشر، بعد يوم العاشر، مسير السبايا، المادة التاريخية في كربلاء، قصة مقتل الحسين (عليه السلام) هذه ايضاً كانت تقرأ وتنشد على ما يبدو في ذلك الزمان وقد ألف بعضهم كتباً في المقتل كما هو واضح في مقتل الحسين التي تروي قصة استشهاد الامام الحسين (عليه السلام) وكان هذا المقتل يقرأ من قبل الناس فأذن المجالس التي كانت تقام في زمن الائمة (عليهم السلام) لاتختلف كثيراً وان اختلفت عن مجالس اليوم وان اختلفت في بعض المظاهر وفي بعض الشعائر، تطورت المجالس عبر الزمان ولكن العناصر المشتركة سواء في ذلك فضائل اهل البيت (عليهم السلام) وذكر مناقب الحسين بالذات او انشاد الشعر بطريقة خاصة حول الحسين (عليه السلام) او ذكر قصة الحسين (عليه السلام)، قصة استشهاده في كربلاء هذه كانت من جملة السمات التي يمكن ان نلمحها عندما نطالع تاريخ المجالس والمآتم الحسينية في تلك الفترة والحمد لله رب العالمين.
*******
نعود الي الروايات المؤرخة لمجالس العزاء الحسيني التي كان النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله) يقيمها قبل شهادة سبطه سيد الشهداء (عليه السلام) في (كامل الزيارات) روي ابن قولويه بسندٍ إلي الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) أنّ أمّ أيمن حدّثته بأن رسول الله (صلي الله عليه وآله) زار منزل فاطمة في يومٍ من الأيّام، فأكل معهم، فلمّا انتهي من غسل يده مسح وجهه المبارك، ثمّ نظر إلي عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) نظراً عرفوا فيه السرور في وجهه، ثمّ رمق بطرفه نحو السماء مليّاً ووجّهَ وجهه الشريف نحو القبلة، وبسط يديه ودعا، ثمّ سجد وهو ينشج بكاءً، فأطال النشوج وعلا نحيبُه، وجرت دموعه، ثمّ رفع رأسه وأطرق إلي الأرض ودموعه الزاكية تقطر، فحزنت فاطمة وعليٌّ والحسنان لما رأوا منه (صلي الله عليه وآله)، وهابوا أن يسألوه، حتـّي إذا طال ذلك قالت له ابنته فاطمة وابنُ عمّه عليّ (سلام الله عليهما): «ما يبكيك يا رسول الله لا أبكي الله عينيك؛ فقد أقرح قلوبنا ما نري من حالك؟».
فقال لعليٍّ (عليه السلام): يا أخي، سررت بكم سروراً ما سررت مثله قطّ، وإنّي لأنظر إليكم وأحمد الله علي نعمته عليَّ فيكم، إذ هبط عليَّ جبرئيل فقال: يا محمّد، إنّ الله تبارك وتعالي اطّلع علي ما في نفسك، وعرف سرورك بأخيك وابنتك وسبطيك، فأكمل لك النعمة، وهنّأك العطيّة بأن جعلهم وذريّاتهم ومُحبّيهم وشيعتهم معك في الجنّة، علي بلويً كثيرةٍ تنالهم في الدنيا، ومكاره تصيبهم بأيدي أناسٍ ينتحلون ملّتك، ويزعمون أنهم من أمتك، براءٌ من الله ومنك خبطاً خبطاً، وقتلاً قتلاً، شتـّي مصارعهم، نائيةً قبورهم.
ثم يقصّ جبرئيل علي رسول الله (صلي الله عليه وآله) مصائب أهل بيته، حتـّي يقول له: وإنّ سبطك هذا - وأومأ إلي الحسين (عليه السلام) - مقتولٌ في عصابةٍ من ذريّتك وأهل بيتك، وأخيارٍ من أمّتك، بضفّة الفرات، بأرضٍ تدعي «كربلاء»، من أجلها يكثر الكرب والبلاء علي أعدائك وأعداء ذريتك، في اليوم الذي لا ينقضي كربه، ولا تفني حسرته إلي آخر الحديث الذي قال فيه رسول الله (صلي الله عليه وآله) لأهل بيته: «فهذا أبكاني وأحزنني».
كان ذلك مأتماً نبويّاً شريفاً، وطالما تكرّر في بيت عليٍّ وفاطمة صلوات الله عليهما، ففيما رواه الشيخ الصدوق في (الأمالي) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: «بينا أنا وفاطمة والحسن والحسين عند رسول الله (صلي الله عليه وآله)، إذ التفت إلينا فبكي.
فقلت: ما يبكيك يا رسول الله؟!
قال: أبكي ممّا يصنع بكم بعدي.
فقلت: وما ذاك يا رسول الله؟!
قال: أبكي من ضربتك علي القرن، ولطم فاطمة، وطعنة الحسن في الفخذ والسمّ الذي يُسقي، وقتل الحسين».
وفي (كامل الزيارات) عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: «كان رسول الله (صلي الله عليه وآله) إذا دخل الحسين (عليه السلام) اجتذبه إليه، ثمّ يقول لأمير المؤمنين (عليه السلام): أمسكه، ثمّ يقع عليه فيُقبّله ويبكي، فيقول (أي الحسين (عليه السلام)): يا أبه، لم تبكي؟!
فيقول: يا بنيّ أقبّلُ موضع السيوف منك وأبكي.
قال: يا أبه وأُقتَل؟!
قال: إي والله وأبوك وأخوك وأنت.
قال: يا أبه، فمصارعنا شتـّي؟!
قال: نعم يا بنيّ.
قال: فمن يزورنا من أمّتك؟
قال: لا يزورني ويزور أباك وأخاك وأنت إلّا الصّدّيقون من أمتي.
ونحن - يا رسول الله- نتأسّي بك فنبكي الحسين ونذكر مصائبه في مجالس الحزن والعزاء، متسامين عن قصد الثواب، مُلبّين نداءك الرّوحيَّ بمحبّة الحسين ونصرته،إذا كنت تمسكه في حياتك الطيّبة وتقبّله وتبكي عليه، فهذا نحن نزوره ونقبّل ضريحه ونقيم مآتمه ونبكي عليه.
إذن يتضح مما تقدم كثرة مجالس العزاء الحسيني التي كان يقيمها النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله) في بيت علي وفاطمة (عليهما السلام) وإستمرارها في الأعوام الأولي من حياة الحسين (عليه السلام).
*******