إن تكن كربلا فحيّوا رباها
واطمئنوا بها نشمّ ثراها
والثموا جوّها الأنيق على ما
كان في القلب من حريق جواها
واغمروها بأحمر الدمع سقياً
فكرام الورى سقتها دماها
السلام عليك يا أبا عبد الله، السلام عليك يا سيد شباب أهل الجنة رحمة الله وبركاته. السلام عليك يا من رضاه من رضى الرحمان، وسخطه من سخط الرحمان.
ندخل معاً الى القرن الخامس الهجري، فنقرأ في (المنتظم) لابن الجوزي، أن الوزير البويهيّ فخر الملك أغدق سنة أربعمئة واثنتين للهجرة على خدم الحرم الحسيني والمجاورين، حاملاً لهم الهدايا والاطعمة إكراماً للإمام الحسين (عليه السلام)، وقد أكسى يوم العيد زهاء ألف نفر منهم، كما عمّر سور الحائر الحسيني حسب ما ذكر ابن الاثير في (البداية والنهاية).
وفي تلك السنة حدث حادث رهيب،حيث شب حريق في الحرم الحسيني في عهد القادر بالله العباسيّ، قيل: على اثر سقوط شمعتين كبيرين، وهناك من يرى أن الحادث كان مدبراً! فقد وقع أيام الفتنة في العراق، فنهبت محالّ الشيعة بواسط وأحرقت، فهرب وجوه الشيعة والعلويين قاصدين علي بن مزيد يستنصرونه.
وبعد حادث حريق الحائر بعشرة ايام، شبّ حريق آخر في حرم العسكريين بسامراء، وأحرقت محلات الشيعة ببغداد، وامتدت الفتن لتشمل بيت الله الحرام والمسجد النبويّ وبيت المقدس ـ كما يذمر ابن الجوزي في الجزء السابع من كتابه (المنتظم) - وكان وراء ذلك أصابع حاقدة على الاسلام الحق.
وعلى أثر تلك الحوادث، أرسل سلطان الدولة البويهي وزيره الحسن بن الفضل الرامهرمزيّ لتجديد بناء الحائر الحسيني الشريف، فعمر القبة والاروقة وسائر أجنحة المرقد الشريف، وجعله أكثر عظمة ً وأفخم بناءاً، ثم شرع بإقامة السور حول كربلاء.
*******
وقبل أن نتابع نقل أهم ما ذكره المؤرخون عن المشهد الحسيني المبارك في القرن الهجري الخامس نقف عند سؤال جدير بالاهتمام في هذا الباب وهي كيف نفسر قيام بعض الحكام وفيهم أيضاً ظلمة بأعمار المشاهد المشرفة من البيت الحرام وغيره خاصة المشهد الحسيني الذي عرفنا شدة محاربتهم له ولزواره.
الاجابة عن هذا التساؤل نستمع لها من خبير البرنامج سماحة الشيخ محمد السند في الحديث الهاتفي التالي:
الشيخ محمد السند: ان الظلمة كالمتوكل العباسي والاموييين والمروانيين كانوا يسعون في هدم قبور اهل البيت (عليهم السلام) ولن يسعون في عمارتها واما قول هذا القائل بأن بعض الحكام الذين تربطهم المودة والمحبة لأهل البيت ويعمرون تلك المراقد الشريفة فالظلم على درجات وانواع واخطر الظلم هو جور الجحود الذي ينصب العداء لبيضة الدين وما شابه ذلك لذلك نرى المسجد الحرام الان او المسجد النبوي قد عمره الكثير من الملوك فهذا الجانب وان اتخذوه وتدنوه لأجل ان يلمعوا جانب من جوانب فعالهم وشبه ذلك، هذا لايعني ان عمارة المسجد الحرام وبيت الله الحرام والمسجد النبوي امر مرجوح لأن فلان من الحكام الذي له ملف وصفحة معروفة قد قام به، هذه الحساسية في الحقيقة اتجاه عمارة القبور، قبور اهل البيت (عليهم السلام) لا اجد لها مبرر الا انه نوع من الجفاء لأهل البيت (عليهم السلام) ونوع من عدم البصيرة بمحورية العترة كعدل آخر للقرآن وانه لا يتم النجاة الا بالتمسك بالثقلين، من يبصر بمثل هذا النظر وهذا النهج لاتتولد لديه مثل هذه الوساوس وهذه التساؤلات، كيف وكل شيء يصب في جذب المؤمن والمسلم للتمسك بالثقلين كتاب الله وعترة النبي (صلى الله عليه وآله) فهذا ما يشيد عمارة الدين واما الذي يبعد المسلمين والمؤمنين عن عمارة قبر النبي واهل بيته والانجذاب للنبي واهل بيته يسعى الى القطيعة وادبار المسلمين والبشرية عن نور الرسالة ونور الايمان ونور الهداية فالمفروض للاخوة المؤمنين والمسلمين ان يتنبهوا الى مثل هذه النزغات والنزعات الشيطانية والتي مصبها هدام وليس بناء لصراط النور وصراط الهداية.
*******
نتابع نقل بعض أهم الحوادث التي جرت على المشهد الحسيني المبارك في القرن الهجري الخامس وفي سنة أربعمئة واثنتي عشرة شيد سور كربلاء محكماً من أربعة جوانب، ليصبح حصناً يقي المدينة غزوات الاعداء. وفي عام أربعمئة واثنين وعشرين، اعترض أهل باب البصرة في بغداد قوماً قدموا من مدينة قم المقدسة يريدون زيارة قبر الامام الحسين (عليه السلام)، فقتلوا من الزائرين ثلاثة أشخاص، لكن ذلك لم يمنعهم من إتيان عملهم، فزاروا كربلاء وأدوا مراسيم الزيارة.
وفي عام اربعمئة وواحد وثلاثين زار السلطان جلال الدولة البويهي الحائر الحسيني المقدس، وقد رافقه حاشيته من أهله وأتباعه ومواليه من الاتراك، وفيهم وزيره كمال الملك، وكان في اكثر الطريق يمشي على قدميه طلبا ً لمزيد الأجر والثواب. ومكث فيها مدة أجزل خلالها العطايا والنعم على سكان الحائر.
كذا زار المرقد الطاهر لأبي عبد الله الحسين (عليه السلام) السلطان أبو كاليجار البويهيّ، وأجزل العطايا على ساكني مدينة كربلاء وذلك سنة أربعمئة وست وثلاثين. أما سنة أربعمة وأحدى وخمسين، فقد زار قبر الامام الحسين (عليه السلام) الوزير البويهيّ أرسلان البساسيري، مصطحباً معه غلالاً كثيرة ليوزعها على العمال الذين قاموا بتوسيع نهر العلقميّ وإيصال مائه الى الحائر الحسيني، وذلك إيفاء بنذره في خدمة الزوّار والمجاورين لمرقد سيد شباب اهل الجنة، أبي عبد الله الحسين (عليه السلام).
ولما كانت سنة أربعمئة وتسع وسبعين هجرية، زار المرقد الشريف السلطان ملكشاه السلجوقي مع وزيره نظام الملك وحاشيته فأمر بتعمير سور الحائر، كما أجزل العطاء على سكان الحائر.
ومن خلال هذا الخبر الذي أورده ابن الجوزي في كتابه (المنتظم) نعلم انتهاء عهد البويهيين الذين ازدهرت في أيامهم مدينة كربلاء ازدهاراً واسعاً، حيث نشطت فيها التجارة والصناعة والزراعة، كما نشط الجانب العلمي والفكري والادبي، فبرع الشعراء والعماء والادباء والمفكرون، وامتازت مركزيتها الدينية والعلمية بين المدن.
وتقدم سنة اربعمئة وتسع وثمانين هجرية بحادثة ذكرها ابن الاثير في تاريخه (الكامل)، وهي الغارة التي شنها عشيرة خفاجة ـ يوم لم تكن من الامامية ـ على امارة الحلة، فأرسل اليهم سيف الدولة جيشاً يقوده ابن عمه قريش بن بدران المزيديّ، لكن قريشاً هذا وقع أسيراً في أيدي خفاجة التي تمادت في غيّها، فأغارت على مدينة كربلاء، وأعملت في رقاب اهلها السيف.
قال ابن الاثير في (الكامل في التاريخ): قصدت خفاجة مشهد الحسين (عليه السلام) فتظاهرت فيه بالفساد والمنكر. حينها غضب سيف الدولة الاسديّ، فجهز لهم جيشاً بقيادته، واسم سيف الدولة هذا هو: صدقة بن دبيس الاسدي، فحاصرهم في الحائر الحسينيّ، وقتل منهم خلقاً كثيراً، حتى لم يسلم أحد من الغزاة المفسدين، فعادت الطمأنينة الى مدينة كربلاء.
وعاد سيف الدولة الى الحلة، فأمر بتعويض خسائر اهل الحائر الحسينيّ من خزانته الخاصة. والى هذه الحادثة يشير الشيخ محمد طاهر السماويّ في ارجوزته فيقول:
والحادث الخامس ما أهاجه
بنهب كربلا بنو خفاجة
وذاك انهم اتوا من غزو
واستطرقوا الطفّ بفرط زهو
فنهبوا سكانه وفتكوا
وأخفروا ذمامه وانتهكوا
فكبس الطفّ عليهم (صدقه)
وكلم السيف بهم وصدقه
*******