منارة السبط بأنوار الهدى
ساطعة، والأفق منها منجلي
وكيف لا تسمو على الشهب علىً
وقد أعدت للحسين بن علي
في (الهداية الكبرى) للخصيبيّ، و(كامل الزيارات) لابن قولويه، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنبأ عن قوم من هذه الامة، لا يعرفهم الكفار،سينهضون لمواراة اجساد شهداء كربلاء، ثم قال: "ويقيمون رسماً لقبر سيد الشهداء، بتلك البطحاء، يكون علماً لاهل الحق، وسبباً للمؤمنين الى الفوز".
هذا ما اخبر به النبي (صلى الله عليه وآله) علياً أمير المؤمنين (عليه السلام)، ويوم الحادي عشر من المحرم قالت العقيلة المكرمة زينب لابن أخيها علي بن الحسين وقد أخذ يجود بنفسه لما رأى الاجساد الشريفة مطرحة على طف كربلاء: "لقد أخذ الله الميثاق على أناس من هذه الامة، لا تعرفهم فراعنة هذه الامة وهم معروفون من أهل السماوات، أنهم يجمعون هذه الاعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجة، وينصبون لهذا الطف علماً لقبر ابيك سيد الشهداء لا يدرس أثره، ولا يعفى رسمه على كرور الليالي والايام. ثم يبعث الله قوماً من امتك، لا يعرفهم الكفار، لم يشاركوا في تلك الدماء بقول ولا فعل ولا نية، فيوارون أجسامهم ويقيمون رسماً لقبر سيد الشهداء، بتلك البطحاء، يكون علماً لاهل الحق، وسبباً للمؤمنين الى الفوز".
وتمر السنوات، ويكون للإمام السجاد (سلام الله عليه) نبوة اخرى، فيرى من خلال الغيب أمراً يقوله للناس: كأني بالقصور وقد شيدت حول قبر الحسين (عليه السلام)، وكأني بالاسواق قد حفت حول قبره، فلا تذهب الايام والليالي حتى يسار اليه من الآفاق، وذلك عند انقطاع مُلك بني مروان.
أجل، يوم تصبح كربلاء المعلاة مدينة تشيد فيها الابنية والاسواق، ويسكنها مئات الموالين وآلافهم، فتقصد من النواحي والارجاء البعيدة والقصية، ليزار فيها قبر سيد شباب أهل الجنة، أبي عبد الله الحسين صلوات الله وسلامه عليه.
*******
وكما استمرت زيارة المشهد لحسيني المبارك في جميع العصور وعلى الرغم من جميع الموانع الارهابية التي تزرعها الايدي الاموية والشيطانية استمرت أيضاً حركة اعمار هذا المشهد ايضاً على الرغم من جميع التحديات المضادة وذلك تعظيماً لشعائر الله وإعماراً للبيوت التي أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ كمحال لذكره.
وفي المقابل استمرت الشبهات والوساوس التي يثيرها أعداء البيوت الالهية لمنع اعمار هذه المشاهد المشرفة، ومن هذه الشبهات تلك التي تتفلع بغطاء إنساني قائلة: أليس من الافضل أن تصرف الاموال التي تنفق في اعمار هذه المشاهد على الفقراء والمحتاجين؟
الاجابة عن هذه الشبهة نتلمسها في كلام خبير البرنامج سماحة الشيخ محمد السند في الحديث الهاتفي التالي:
الشيخ محمد السند: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وال بيته الطيبين الطاهرين.
هذه المقارنة والموازنة ترجع الى النزعة المادية عكس ما يريد السائل ان يقول ان عمارة قبور الائمة هو جانب مادي على العكس، من الواضح ان في اولويات المهام الدينية ترويج الوعي والفكر اهم من سد خلة البطون والفروج وان كان انعاش الفقراء من الجهة البدنية والمادية هو من االاولويات الا ان نور البصائر في القلوب هذا اعظم بكثير وبمراتب من اشباع البطون او سد الفروج وما فائدة الحياة القصيرة الدنيوية في جنب الحياة الاخروية العظيمة فالموازنة عكس ما يدعيها السائل من ان فيها جنبة مادية، هو رجح الجنبة المادية على الجنبة المعنوية فأن في عمارة مراقد الائمة عليهم السلام جذابية معنوية و وعي روحي وفكري ونوع من المركزية للاشعاع الديني كما هو الحال الان في المسجد الحرام من يقول مثلاً دع المسجد الحرام ان يكون ترب ولايستقطب ملايين الناس وتصرف في بطون الناس وحاجياتهم البدنية فمن الواضح هذه موازنة ذات نزعة مادية عكس ما يدعيه السائل.
*******
نتابع الحديث عما جرى على المشهد الحسيني المبارك في القرن الهجري الرابع جاء في كتاب (فرحة الغريّ) للسيد عبد الكريم بن أحمد بن طاووس، أن عضد الدولة البويهي واصل زيارته التقليدية سنة ثلاثمئة واحدى وسبعين هجرية الى كربلاء لزيارة قبر سيد الشهداء، ليشرف في تلك السنة على مراسم الانتهاء من اعمار المرقد الحسيني المطهر وبنائه. حيث اهتم هذا الامير بتزيين الروضة الحسينية وأروقتها، فجلب معه القناديل والثريات المضاءة بالشمع، وزين الضريح الحسيني بالساج والديباج، وغلفه بالخشب، وأمر ببناء الصحن الصغير، ومدرسة ثانية الى جوار الصحن الشريف الذي احتل موقعه في الجهة الشمالية والشرقية للمرقد الطاهر. وقد احتوى الصحن الصغير على مئذنتين، وكان من ذلك الصحن يذهب الى مرقد أبي الفضل العباس (سلام الله عليه).
جاء في (أعيان الشيعة) للسيد محسن الامين وصف السيد محمد بن ابي طالب الموسوي لأعمال الامير عضد الدولة، حيث قال: وبلغ عضد الدولة بن بويه الغاية في تعظيم الروضة الحسينية وعمارتها، والاوقاف عليها، وكان يزورها في كل سنة، ولما زار المشهد الحسيني عام ثلاثمئة وواحد وسبعين من الهجرة، بالغ في تشييد الابنية حوله، وأجزل العطاء لمن جاوره.
لقد تقدمت مدينة كربلاء المقدسة على عهد عضد الدولة تقدماً ملموساً، وازدهرت ازدهاراً واسعاً، وتطورت معالمها الدينية والاجتماعية والاقتصادية. فاتسعت تجارتها، وأفضلت زراعتها، وأينعت علومها وآدابها. وقد وصف الشيخ محمد طاهر السماويّ رحمه الله ما قام به عضد الدولة من بناء وإعمار ورعاية، في أرجوزته التي قال فيها:
ثم تولى ابن بويه العضد
فاخضر عود فيه كاد يُخضد
بنى له القبة ذات الأروقة
محيطة على الضريح محدقة
وزيّن الضريح بالديباج
وما علا دائره بساج
وشعشع القبة والرواقا
وعمّر البيوت والأسواقا
وعصم البلدة بالاسوار
فحكت المعصم بالسّوار
وساق للطف مياهاً جارية
وامتاز للضوء وقوفاً جارية
وكان ابن الاثير قد كتب في مؤلفه الشهير (الكامل في التاريخ) شيئاً حول أعمال عضد الدولة تجاه الحرمين الشريفين في: مكة المكرمة والمدينة المنورة، وتجاه المشهدين المقدسين في: الغريّ والعلويّ، والحائر الحسيني، فقال: ولا ننكر أعماله العظيمة، ومآثره الاسلامية الجليلة، فقد بالغ في تشييد الابنية حول المشهد في الحائر، فجدد تعمير القبة، وشيد الاروقة من حوله، وبالغ في تزيينها وتزيين الضريح بالساج والديباج، وعمّر البيوت والاسواق من حول الحائر، وعصم مدينة كربلاء بالاسوار العالية فجعلها كحصن منيع، ثم أهتم بالماء لسكان البلد، والضياء للحائر المقدس، فساق المياه الجارية للطف من مسافات بعيدة، وخصص أوقافاً جارية للإنارة والاضاءة.
وفي كتابه (فرحة الغريّ) ذكر السيد عبد الكريم ابن طاووس تفصيلاً للعطاء الذي أغدقه عضد الدولة على الناس في كربلاء على اختلاف طبقاتهم، مما انعش الحياة في هذه المدينة، فازداد عدد السكان من خلال مجاورة العلويين والشيعة للحائر الحسيني النيّر، ثم توافد على ارض الحسين (عليه السلام): الفقهاء والقرّاء وقد اتخذ الملوك البويهيون مدافن لهم في الحائر الحسيني المقدس، لتكون قبورهم على طريق الزائرين بين الحرمين الشريفين، فشيدوا هذا البناء الجميل الطراز، وأصبحت مقابرهم في وسط ساحة في سرداب تحت الارض وعلى جانبي المدخل الرئيس الذي هو المدخل الشمالي الى ضريح سيد الشهداء (سلام الله عليه).
ما تقدم هو من مصاديق تحقق ما أخبرت عنه الاحاديث الشريفة التي نقلنا بعضها في مقدمة هذا اللقاء، وتحولت أرض سيد الشهداء (عليه السلام) الى احدى اهم الحوافر الاسلامية التي تهوى اليها قلوب المؤمنين.
*******