يُعد العراق من بين أغنى دول العالم من حيث الموارد الطبيعية، خاصة النفط، حيث يمتلك أكثر من 145 مليار برميل من الاحتياطيات المؤكدة، ويحقق إيرادات تقدر بـ 110 مليار دولار (في عام 2024).
ومع ذلك، فشل هذا البلد في تحويل هذه الثروة النفطية إلى قاعدة صناعية ديناميكية ومكتفية ذاتياً، تُلبّي احتياجات التصنيع وتوفر رأس المال اللازم للتنمية.
اليوم، لم يعد العراق دولة منتجة، بل تحوّل إلى سوق استهلاكية تعتمد على الواردات في تلبية معظم احتياجاته، بما في ذلك المواد الغذائية والملابس والمعدات الطبية والآلات وحتى المنتجات الثقافية.
فلماذا فشل العراق في استثمار موارده النفطية لتحقيق تنمية صناعية، كما فعلت بعض دول المنطقة؟
النفط نعمة تحولت إلى نقمة
بعد سقوط النظام البعثي الديكتاتوري وتشكيل الهيكل السياسي الجديد في العراق، شهدت البلاد زيادة غير مسبوقة في العوائد النفطية، حيث تدفقت مليارات الدولارات إلى خزينة الدولة.
وعلى الرغم من امتلاك العراق الآن أكثر من 100 مليار دولار من الاحتياطيات النقدية، ليكون في المرتبة الثالثة بين الدول العربية، إلا أن هذه الثروة الهائلة لم تُستثمر في بناء البنية التحتية أو تطوير الصناعة المحلية، بل تم إهدارها في عمليات فاسدة واستيراد سلع استهلاكية، مما حوّل هذه النعمة إلى نقمة حقيقية على الشعب العراقي.
أصبح العراق يعتمد على الاستيراد في كل شيء، مما أخلَّ بالتوازن التجاري وأفرغ الاقتصاد الوطني من أي حيوية.
ويرجع ذلك إلى عدة أسباب، أبرزها:
1. الضغوط والسيطرة السياسية والاقتصادية الأمريكية، وقيد التصنيع الخفي
لعبت الضغوط الأمريكية السياسية والمالية دوراً محورياً في تشكيل الاقتصاد الاستهلاكي للعراق. فمنذ فرض العقوبات الدولية في عهد صدام، ثم بعد الاحتلال عام 2003، خضعت هياكل العراق الاقتصادية لسيطرة واشنطن وتأثير سياساتها.
فعلى سبيل المثال، لا تُودع عائدات النفط العراقي مباشرة في حسابات الدولة، بل تُحول إلى حساب في بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بموجب القرارين الأمميين 986 (1995) و1483 (2003). وتتحكم الولايات المتحدة في كيفية صرف هذه الأموال، سواءً لتغطية النفقات الجارية أو لاستيراد السلع. وهكذا، تُتخذ القرارات الاقتصادية الكبرى في العراق بناءً على مصالح أمريكا وحلفائها.
هذه السيطرة حدّت من قدرة العراق على جذب استثمارات استراتيجية، أو نقل التكنولوجيا الصناعية، أو التعاون مع دول أخرى متقدمة تقنياً. فشركات الغرب، التي تهيمن على قطاعات حيوية، تبحث فقط عن أسواق استهلاكية، وليس عن تعزيز البنية الإنتاجية للعراق.
كما أن الضغوط الأمريكية حالت دون تعاون العراق مع قوى صناعية غير غربية. ففي عام 2019، عندما سعى العراق إلى تقوية علاقاته الاقتصادية مع الصين، عملت الولايات المتحدة على تعطيل هذه الجهود عبر الضغوط السياسية وإثارة الاضطرابات الاجتماعية. وهكذا، منعت واشنطن العراق من الحصول على التكنولوجيا أو بناء شراكات تساعده على التصنيع.
2. الفساد والبيروقراطية وهيمنة الدولة على الاقتصاد
واجه الهيكل السياسي العراقي بعد 2003 تحديات جمة، أبرزها الفساد الواسع وضعف الأداء الحكومي. وقد تفاقم هذا الفساد بسبب البيروقراطية المعقدة، فضلاً عن الدور الأمريكي المباشر في إدارة البلاد.
فقد استغل المستشارون الأمريكيون مواقعهم في السنوات الأولى للاحتلال للاستفادة من الصفقات بين الحكومة العراقية والشركات الأجنبية. على سبيل المثال، اتُهم بعض موظفي شركة "هاليبرتون" (Halliburton) بالحصول على 160 مليون دولار مقابل أعمال لم تُنفَّذ، بالإضافة إلى 60 مليون دولار كـ "فواتير مبالغ فيها" من الحكومة العراقية.
وهكذا، بدلاً من استثمار عائدات النفط في مشاريع تنموية طويلة الأجل، تم تبديدها في الفساد والمشاريع الفاشلة أو الإنفاق الاستهلاكي. كما أن الاقتصاد المركزي الذي تهيمن عليه الدولة لم يترك مجالاً للقطاع الخاص، حيث عانى رواد الأعمال من انعدام الأمن، والقوانين الغامضة، وغياب الدعم المالي والبنى التحتية. فاختفى الإنتاج المحلي، وسيطرت البضائع المستوردة على السوق وعقلية المستهلك العراقي.
3- إضعاف القوة الوطنية وزيادة التبعية
أدى تراجع القطاع الصناعي وغياب الإنتاج المحلي إلى جعل العراق شديد التأثر بالتقلبات الخارجية. فأي اضطراب في الأسواق العالمية أو تغيير في سياسات الدول المصدرة قد يتسبب بأزمات في توفير السلع الأساسية. ولم يقتصر الأمر على فقدان الاستقلال الاقتصادي، بل أصبح العراق لاعباً ضعيفاً في المعادلات الإقليمية والدولية.
البطالة والسخط: نتائج الاقتصاد الاستيرادي
فشل الاقتصاد النفطي والاستهلاكي في خلق فرص عمل كافية، خاصة للخريجين الشباب. ففي قطاع النفط، الذي يستحوذ على معظم الاستثمارات، لا تُولد كل مليار دولار سوى 500 إلى 1000 وظيفة مباشرة. بينما يُواجه آلاف الخريجين سنوياً مستقبلاً مجهولاً.
هذه البطالة الواسعة، خاصة بين المتعلمين، كانت سبباً رئيسياً للاحتجاجات في السنوات الأخيرة، والتي تحولت من مطالب اقتصادية إلى أزمات سياسية وأمنية.
مجتمع محبط .. جيل بلا أفق
في مجتمع يشكل الشباب غالبيته، يتجاوز تأثير الأزمة الاقتصادية مجرد البطالة أو الاستيراد. فالشاب العراقي، في ظل اقتصاد استهلاكي، لا يرى نفسه عنصراً فاعلاً، ولا يلمح مستقبلاً مشرقاً. وهذا الإحساس بالعجز يضر بروح المجتمع أكثر من الفقر نفسه. فبدلاً من انخراط الشباب في المصانع أو المشاريع الإنتاجية، نراهم إما في طوابير الهجرة، أو البطالة، أو الاحتجاج.
العراق اليوم ليس فقيراً بالموارد أو الكفاءات، لكنه ضعيف بسبب هيمنة الولايات المتحدة وهياكل الحكم الفاسدة التي خلّفها الاحتلال عام 2003. فبدلاً من تحويل النفط إلى تنمية، يدور العراق في حلقة مفرغة: يبيع النفط ليستورد، ويستورد ليستهلك، ويستهلك ليبقى تابعاً.
لكسر هذه الحلقة، على العراق استعادة استقلاله السياسي والاقتصادي، ووضع سياسات صناعية تعتمد على قدراته الذاتية، وإيقاف تحويل النفط إلى سلع استهلاكية عابرة. وإلا، فإن البلاد لن تفقد فقط ثروتها النفطية، بل أيضاً ثروتها البشرية وتماسكها الاجتماعي.