إن القدس بالإضافة إلى مكانتها الدينية المذكورة، تحتل أهمية بالغة أخرى ناجمة عن الاحتلال الصهيوني لها، فهو من جهة احتلال كولونيالي في إطار الهيمنة الإمبريالية، ومن جهة ثانية هو احتلال مؤدلج بروايات حاخامية عنصرية تسعى لوضع اليد على هذه المدينة ومصادرة التاريخ الحقيقي لها بوصفها معمورة إسلامية – مسيحية.
من جهة ثالثة، تعدّ القدس أحد العناوين الكبرى للصراع مع الغزاة على مدار الحقب والعصور، وما من موقعة أو معركة حاسمة شرق المتوسط جرت بمعزل عن هذه المدينة وما تمثله في وجدان كل شعوب المنطقة، وهي أخيراً جوهر الدائرة الثالثة في استراتيجية عبد الناصر، وهي دائرة العالم الإسلامي قبل أن تحتل مكانة مماثلة في خطاب الثورة الإيرانية بعد الإطاحة بالشاه ونظامه العميل، وهو الخطاب الذي تجلى فيما يخص القدس بتأسيس فيلق القدس والإعلان العالمي ليوم القدس.
إلى ذلك، فإن المسيرات والفعاليات المختلفة لهذا اليوم في هذا العام تحديداً، محمّلة بدلالات لافتة سواء في بعدها الموضوعي الناجم عن التضامن العفوي الكبير مع الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة في غزة، أو في بعدها السياسي المدروس بعناية من قبل القوى المنخرطة في أشكال الإسناد المختلفة عسكرية كانت أو سياسية:
أولاً: الانخراط الواسع لتيارات إسلامية كان بعضها يشارك سابقاً في يوم القدس مشاركة رمزية أو هامشية، وكان بعضها الآخر يقاطعه في سياق الانحراف المعروف عن فلسطين كقضية مركزية للأمة، وللانخراط الجديد دلالات شديدة الأهمية ليس أقلها اتساع وحدة الساحات لهذه التيارات بعد عقد كامل من أوهام الثورات الملونة والتفاهم مع واشنطن، والرهان على محاصصة سياسية في الحكم هنا وهناك.
ومن المؤكد أن معركة غزة ووحدة المواقف والبنادق التي أطلقتها لعبت دوراً حاسماً في هذا التحول.
ثانياً: الاستعراض العسكري لكل فصائل المقاومة الفلسطينية في مخيم اليرموك في دمشق، وهو المخيم الذي جرى اختراقه من جماعات تكفيرية خلال العشرية السوداء في سوريا، في رسالة واضحة آنذاك ضد هذا المخيم بالذات لتاريخه ودوره في تغذية كل تيارات وأفكار المقاومة ضد العدو الصهيوني، فضلاً عن الإزاحة المشبوهة عن القضية الفلسطينية واختراع تناقضات وهمية للصراع امتداداً للاستراتيجية الأميركية-الصهيونية، بفتح جبهات جديدة كما حدث باسم الجبهة الشرقية خلال الحرب العراقية -الإيرانية.
وتكمن الأهمية المضاعفة لما شهده مخيم اليرموك في يوم القدس في التأكيد على الطابع المسلح للمقاومة انطلاقاً من دمشق، وليس الاقتصار فقط على الاستعادة السياسية للقضية الفلسطينية كقضية مركزية.
ثالثاً: المسيرة التي شهدتها مدينة صيدا، والتي حاول الانعزاليون والمناهضون للمقاومة من جماعات واشنطن و"تل أبيب" والمحميات النفطية، عزل هذه المدينة عن تاريخها الوطني العروبي وعن المقاومة وخطابها وإضفاء طابع مذهبي وطائفي يعمق هذه العزلة ويحوّلها إلى عازل جغرافي، فكما قوات الفجر التي أطلق فكرتها سابقاً الشيخ فتحي يكن، صنو الشيخ فضل الله وشريكه في بناء خطاب توحيدي وطني، ها هو الجنوب يعود كله وبكل مذاهبه للانخراط في هذا اليوم انطلاقاً من وحدة الخطابات والبنادق، والتأكيد أن العدو الصهيوني هو موضوع التناقض التناحري الرئيسي لكل الوطنيين.
رابعاً: المسيرات الكبرى التي شهدتها الأردن وشملت العاصمة والمدن الأردنية الأخرى شمالاً وجنوباً بالإضافة إلى المخيمات الفلسطينية، بل إن المشاركة الأردنية الواسعة خارج عمان جاءت في سياق التوتر الأخير بين أوساط نافذة وبين الشارع الذي حافظ على مسيرات يومية مسائية قرب سفارة العدو الصهيوني، وكانت المسيرات الشعبية أيضاً، رداً على أي محاولات لشيطنة الحراك التضامني في يوم القدس وما يحمله من دلالات تتكامل سياسياً مع محور المقاومة.
والأهم في الحراك التضامني الأردني ما يحمله من دلالات موضوعية على فكرة دول الطوق التي حاولوا إسقاطها عبر "كامب ديفيد" و"أوسلو" و"وادي عربة"، وتحويل العدو إلى حليف مهيمن في الشرق الإبراهيمي الجديد.
فوحدة الساحات بهذا المعنى لم تعد مع حراك صيدا والحراك الأردني مقتصرة على القوى المعروفة في محور المقاومة، ومن المؤكد أن بحث العدو عن خواصر رخوة للهرب من تداعيات غزة سيدفع المزيد من شعوب المنطقة المهددة بالتوسع والترانسفير ومنها الأردن إلى تعظيم القواسم المشتركة مع هذه القوى.
أخيراً، فإن دور قوى ودول محور المقاومة في المسيرات والفعاليات المختلفة ليوم القدس رسالة متواصلة معمّدة بالدم والنار، وتأكيد لوحدة الاشتباك الاستراتيجي من غزة ومجاهديها إلى حزب الله والمقاومة العراقية التي انخرطت كما أنصار الله في الاشتباك المباشر مع العدو الصهيوني والقواعد الأميركية.
وهو ما يعني أن القدس ويومها والطريق إليها، هي عنوان المعركة الكبرى على طريق تحرير الشرق كله من الهيمنة الإمبريالية والصهيونية والانتصار للمظلومين والمستضعفين من كل الأمم، ولهذا السبب فإن يوم القدس منذ إطلاقه في طهران وهو موضع استهداف سياسي وإعلامي وعسكري من قبل التحالف الإمبريالي الصهيوني وامتداداته الإقليمية.
وقد تمثل العنوان الأخطر في هذا الاستهداف بالعمل على التقليل من شأن القضية الفلسطينية كقضية مركزية للأمة واستبدالها بقضايا وجبهات أخرى وتحت عناوين تمزيقية تقسيمية، طائفية وجهوية، واختراع ثورات مضادة وملونة تنهل من هذه العناوين، ولم يكن بلا معنى أن تكون البلدان المستهدفة بهذه الثورات هي البلدان المرشحة لتصويب بوصلة الصراع في كل مرة، والتأشير دائماً على العدو الصهيوني وداعميه وتحالفاته.
الميادين - موفق محادين