أكثر من ستين يوماً مضت على معركة طوفان الأقصى، لم تحقق "إسرائيل" فيها أياً من أهدافها، وعادت بعد هدنة قصيرة لتمارس وحشيتها المفرطة على المدنيين الفلسطينيين عبر استخدام استراتيجية المطرقة والضغط العسكري لفرض شروطها على المقاومة، وما زالت تبحث عن استعادة ردعها المفقود بإسناد أميركي غربي غير مسبوق، ولم تفلح.
سياسة الأرض المحروقة، التي تنتهجها "إسرائيل" في قطاع غزة بصورة أكبر، وتحديداً خلال الأسبوع الأول بعد الهدنة، تُعَدّ حرب إبادة جماعية وعملية تدمير ممنهجة، لكنها على الوجه الآخر تفاوضٌ تحت النار، ضمن سياسة عض الأصابع عبر استخدام مزيد من القوة العسكرية، من أجل غرض تحقيق هدفين أساسيين:
أولاً، استخدام الضغط العسكري لإجبار المقاومة الفلسطينية على العودة إلى صفقة تبادل الأسرى وفق الشروط السابقة نفسها، والتي أبرمتها لحظة الإفراج عن المدنيين، على نحو يشمل سائر النساء المجنَّدات الأسيرات لدى حركة حماس من دون دفع أثمان باهظة تطالب فيها المقاومة بالإفراج عن أسرى من أصحاب المؤبدات والأحكام العالية.
ثانياً، ممارسة مزيد من الضغط على الواقع الإنساني بعد نزوح الآلاف في اتجاه محافظات جنوبي قطاع غزة، وما شكله ذلك من كتلة بشرية كبيرة، وهو ما يمهد الطريق لدفع "إسرائيل" إلى تحقيق سيناريو التهجير إلى سيناء المصرية، كأحد المخارج المتوقعة لها من ورطتها في قطاع غزة.
مرّ شهران متتاليان على بدء حرب تدميرية عبثية تشنها "إسرائيل" على قطاع غزة، نجحت خلالها في قتل ما يزيد على 17 ألفاً من الفلسطينيين المدنيين، نصفهم من الأطفال، إلى جانب حربها على المنازل والأبراج السكنية بضوء أخضر ودعم وشراكة أميركيَّين، لكنها عسكرياً لم تحقق شيئاً، وما زالت تبحث عن تحقيق نصر ينقذ سمعتها بعد مسلسل الهزائم التي تكبّدتها منذ السابع من أكتوبر، وعلى مدار ستين يوماً من أيام الحرب، وصولاً إلى الخسائر الأخيرة التي تكبدتها في الساعات الـ 48 الأخيرة، والتي هزت قيادتها، بمختلف مستوياتها السياسية والعسكرية والأمنية.
سؤال يطرح نفسه بعد شهرين من حرب ضارية طالت الإنسان والشجر والحجر: ماذا جنت "إسرائيل" وجيشها المنهزم من قطاع غزة؟
في نظرة شاملة، تكبدت "إسرائيل" خسائر عسكرية كبيرة غير معهودة، ولم تتوقعها، في ثلاثة ألوية من ألوية جيشها المعروفة، وآلياتها وناقلات الجند ومدرعاتها العسكرية، التي باتت هدفاً سهلاً لقذائف الياسين والتاندوم، ونتيجة لضربات المقاومة المركزة والتكتيكات العسكرية في إدارة المواجهة في الميدان وكمائنها في أثناء التصدي للعملية البرية، وهو ما انعكس على الروحين القتالية والمعنوية، وأدّى إلى تسجيل حالات فرار وانسحاب من الخدمة العسكرية لدى جيش الاحتلال. أمّا على صعيد استعادة الأسرى من خلال الحرب البرية الجارية ففشلت فشلاً ذريعاً
ومُنِيَت بإخفاق كبير، أمنياً وعسكرياً. أمّا برياً ففشلت "إسرائيل" في السيطرة الكاملة على أي محور توغلت فيه، بحيث تشهد جميعها اشتباكات ضارية تتكبد فيها خسائر كبيرة في آلياتها وجنودها، وأحياناً تضطر إلى الانسحاب والتراجع أمام ضربات المقاومة كل ساعة، ناهيك بقدرة المقاومة الكبيرة، خلال الاشتباك من مسافة صفر، على المباغتة بعد التفوق في القدرة على الرصد وتحديد الأهداف وتنفيذها بدقة بالغة وتوثيقها بالصوت والصورة، إذ يُسجَّل للمقاومة الفلسطينية بعد ستين يوماً من الحرب الإسرائيلية الضروس تفوقٌ في معركة الرواية والصورة.
أمّا في الميدان فسجّلت "إسرائيل" فشلاً آخرَ في قدرتها على منع المقاومة من قصف عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة، وما زالت المقاومة قادرة على قصف العمق ذاته، وخصوصاً مدينة "تل أبيب"، بعد ستين يوماً من العدوان، برشقات صاروخية كبيرة ومركزة، ومن الأراضي التي تشهد توغلاً برياً إسرائيلياً.
خسرت "إسرائيل" وهُزمت في معركة الرواية على صعيد الرأي العام الدولي. لم تعد روايتها مصدَّقة بعد بشاعة المجازر والجرائم التي ارتكبتها بحق المدنيين الفلسطينيين. لقد هزمت فيها وصورتها على الصعيد الدولي تأكَّلت بصورة عامة، وفي الجاليات اليهودية على مستوى العالم، وهو ما أدى إلى تراجع في مستوى الدعم والتأييد لكل ما تقوم به من جرائم.
هُزمت "إسرائيل" على صعيد الصدقية والمعلومة، كما هُزمت في الميدان، من خلال عدم الكشف عن خسائرها، فما زالت تفرض قيوداً وتعتيماً على المعلومة عبر رفض الإفصاح عن أعداد القتلى والجرحى من جيشها من جهة، ومنع اللقاءات والمقابلات الإعلامية للأسرى المفرج عنهم في الصفقات الجزئية التي تمت، من جهة أخرى.
روّجت أطراف كثيرة مراراً وتكراراً أن "إسرائيل" "دولة" يمكن التعايش معها، وأن هجرة الفلسطيني عام 1948 كانت مجرد ذكرى عابرة، وبعد الـ7 من أكتوبر وبدء الحرب على قطاع غزة تعززت صورة مغايرة، كشفت حقيقة "إسرائيل" ومجتمعها الصهيوني وعقليته وأهدافه تجاه الفلسطينيين، وهذا ما كشفته نتائج آخر استطلاع حديث أجراه "معهد الأبحاث القومي الإسرائيلي"، والتي أشارت إلى أن 96% يؤيدون عمليات الإبادة والتطهير والتهجير التي يقوم به جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني.
قراءة هذا الاستطلاع المهم، من حيث المضمون والتوقيت، تكشف الوجه الحقيقي لـ"إسرائيل" تجاه الهدف من حرب الإبادة الجارية التي يشنها جيش الاحتلال ضد المدنيين الفلسطينيين، وحجم الضغط الكبير الذي يمارس لتمرير هذا المخطط، وتكشف حقيقة "إسرائيل" تجاه الفلسطينيين، ومفادها أن التهجير لم يكن ذكرى عابرة، بل هو نهج مستمر في العقلية الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني، وهذا ينسجم بصورة رئيسة مع ما كشفه أحد التقارير الإسرائيلية الرسمية، التي نُشرت مؤخراً بشأن أحد أهم أهداف الحرب على قطاع غزة، وهو تمرير مخطط التهجير. وهذا السيناريو يتم عملياً من خلال هدم مئات الأبراج السكنية.
المحرقة المستمرة والجرائم التي تمعن "إسرائيل" في ارتكابها لن تحقق لها أهدافاً، وقيادة الاحتلال تدرك أكثر من غيرها أن قضية الأسرى الموجودين لدى حركة حماس هي قضية لن تُحَلّ إلّا عبر صفقة تبادل تدفع فيها الثمن الذي تطلبه حركة حماس في مقابل تحرير الأسرى من أصحاب الأحكام العالية والمؤبدات، وعلى رأسهم أبطال نفق الحرية، تحقيقاً للوعد الذي أطلقته على نفسها.
"إسرائيل" ليست بالقوة التي تتوهّمها دول المنطقة، وهامش الوقت والمناورة بدأ يضيق عليها بالتدريج، واقتربت لحظة الرضوخ الكبرى لمطالب المقاومة، و"جيش" الاحتلال الإسرائيلي المنهزم في غزة لن يستطيع القتال أسابيع إضافية يتحمل فيها مزيداً من الخسائر في الميدان. وفي اللحظة التي ينجلي فيها غبار المعركة ستندلع الصراعات الداخلية في "إسرائيل"، وستطفو الخلافات على السطح من جديد، ويحمّل كل طرف مسؤولية الفشل للآخر.
انطلقت شرارة معركة طوفان الأقصى قبل ستين يوماً، وما زالت مستمرة، ولعل أبرز ما يمكن أن يسجَّل لها أنها نجحت في تحقيق أحد أهم أهدافها الاستراتيجية، إذ إنها وجهت ضربة قاصمة إلى مفهوم إرادة البقاء التي يقوم على أساسها المشروع الصهيوني في أرض فلسطين.
ولعل نتائج هذه الضربة ستتكشّف قريباً لتكشف حجم التداعيات المترتبة عن ظاهرة الهجرة المعاكسة للمستوطنين أضعافاً مضاعفة من هجرتهم من "إسرائيل" في اتجاه أوروبا، كهزيمة أخرى تضاف إلى الهزيمة التي مُنيت بها "إسرائيل" يوم السابع من أكتوبر.
الميادين/ شرحبيل الغريب