لا شك أن التحول في الغابون المتمثل في سيطرة العسكريين على السلطة، التي تصنف كأحد أوثق حلفاء فرنسا في منطقة وسط أفريقيا، يعمق الجراح الفرنسية هناك، خاصة بعد ارتباكها المستمر في التعاطي مع المتغيرات الأفريقية المتتالية منذ عام 2019، والتي حدثت بسرعة تجاوزت قدرة الفرنسيين على الرد، لأسباب مختلفة، وطردتهم من عدد من الدول التي كانت تعدّها فرنسا، ملعباً لا منازع لها فيه، وآخرها النيجر.
لا تجد فرنسا حرجاً بالتحالف مع عائلة تحكم الغابون منذ 56 عاماً، تحت ستار النظام الجمهوري، رغم دأب باريس على تصدير "خطابات الديمقراطية" إلى البلاد الفقيرة في شتى بقاع العالم.
كل ذلك وأكثر بكثير جائز؛ ما دامت مصالحها محمية، منهج سارت عليه الأغلبية الساحقة من دول الغرب في التعامل مع جنوب وشرق العالم.
ومع التحول الأخير الحاصل في الغابون، لا يزال الغموض يحيط بمصير البلد المصنف بين أعلى دول أفريقيا دخلاً، وما يرتبط به من ثروات ينتجها ويصدرها.
سياسياً ...
إن أي "انقلاب عسكري"، أو اضطراب في دولة أفريقية تصنف حليفة لفرنسا، يعدّ انتكاسة إضافية لصورة الأخيرة، خاصة مع تاريخها الطويل من الهيمنة في أفريقيا، بل ويلحق المزيد من الضرر بصورتها أمام حلفائها، الذين يرصدون تزايد الدعم الصيني والروسي لحلفائهما في أفريقيا، سواء العسكري منه، أو الاقتصادي.
حتى الآن، لا تزال الأمور ضبابية من الناحية السياسية في الغابون ما بعد التحول، خاصة مع معاناة أغلب دول مجموعة "سيماك" مؤخراً من عدم الاستقرار، والتهديد بالانقلابات أو تغيير التحالفات، وتضم "سيماك" (المجموعة الاقتصادية والنقدية لدول وسط أفريقيا)، كلاً من تشاد والكاميرون والغابون، وأفريقيا الوسطى و الكونغو برازافيل وغينيا الاستوائية.
وبالإضافة إلى انقلاب محمد ديبي على حكم والده في تشاد، تُعرف دول أخرى في المجموعة بطول مدة حكم قادتها، كالكاميرون التي تُحكم من الشخص ذاته منذ أكثر من 41 عاماً، والكونغو برازافيل التي يحكمها زعيمها منذ 26 عاماً، أما غينيا الاستوائية فيحكمها الرئيس مباسوغو منذ 44 عاماً، بالتالي فإن كثيراً منهم سوف يتحسس كرسيه إن نجح التحول في الغابون.
بالتالي، فإن نجاح "الانقلاب" سيزيد من صعوبة التعامل مع التغيرات الأخرى التي حصلت سابقاً، بأغلبيتها في مناطق الساحل الأفريقي، وربما يسرّع الاعتراف بالسلطات الجديدة هناك.
هل سيتدخل الجيش الفرنسي؟
تمتلك فرنسا في الغابون واحدة من أكبر قواعدها في أفريقيا، وهي قاعدة "شارل ديغول"، التي تضم ما بين 400 -500 جندي فرنسي، واستطاعت من خلال هذا العدد على مدى عقود، حماية مصالحها الاقتصادية والسياسية في تلك المنطقة.
فمع محاولة انقلاب 1964 قامت فرنسا بإعادة "ليون مبا" إلى منصبه خلال 48 ساعة، وفشل انقلاب 2019 ضد علي بونغو، بدعم فرنسي أيضاً.
لكن للتدخل العسكري في هذه الأيام فواتير وتبعات كبيرة، لا يتوقع أن تستطيع فرنسا تحملها، خاصة مع ارتفاع موجة المعاداة لها في القارة الأفريقية، التي بات أبناؤها يقرأون كل يوم عن ثرواتهم المنهوبة أوروبياً، ويعانون من تبعات تلك السرقات حتى الآن، وليس آخرها مدافن النفايات النووية في شمال النيجر.
وفي السياق، أفادت صحيفة "وول ستريت جورنال"، وفي أعقاب أحداث الغابون، أنّ استطلاعات الرأي السابقة في ذلك البلد أظهرت أنّ "لدى عامة الناس رأياً سيئاً للغاية بشأن فرنسا"
اقتصادياً ...
تعدّ الغابون واحدة من أهم منتجي النفط في أفريقيا، إضافة إلى تمتعها بثروات هامة أخرى كالمنغنيز والخشب، والأراضي الواسعة الصالحة للزراعة ومنفذ حيوي على البحر، وعلى الرغم من ذلك يعاني ثلث الغابونيين من الفقر.
ولفهم العلاقة الاقتصادية بين فرنسا ودول "سيماك" يكفي أن نعرف أن فرنسا اشترطت على بنوك هذه الدول المرتبطة بعملتها إيداع 65% من أموالها لدى البنك الفرنسي.
وإثر هذا التغير في الغابون، أعلنت عملاقة التعدين الفرنسي "إيراميت"، أنها ستعلق أنشطتها في البلاد معللة ذلك بـ"حماية سلامة موظفيها وسلامة منشآتها". المجموعة التي أصبحت بفضل مواردها في الغابون كأكبر منتج للمنغنيز في العالم، حيث يمثل نحو 70% من دخلها التشغيلي.
وتسبب إعلان تجميد الأنشطة في تراجع أسهمها بأكثر من 16% في بورصة باريس. الأمر الذي أجبرها على الإعلان سريعاً عن استئنافها أنشطتها، التي تشمل بالإضافة إلى أنشطة الاستخراج، تشغيل خط قطار، اعتباراً من الخميس.
في اليوم التالي للتحول في السلطة في البلد، الذي يصنف كرابع أكبر منتج للنفط في دول جنوب الصحراء الأفريقية، ارتفعت أسعار النفط في التعاملات الصباحية، متأثرة بشكل مباشر بالتحول الأخير، وأسباب أخرى عديدة.
وبالتالي، فإن اضطرابات محتملة في الغابون، يمكن أن تؤثر في أسواق الطاقة، لا سيما في ظل تداعيات كبيرة يواجهها العالم، بعد العملية العسكرية في أوكرانيا وارتفاع احتياج أوروبا لموارد الطاقة.
المجموعة الفرنسية الرئيسية الأخرى العاملة في الغابون هي "توتال إينيرجيز"، التي تقول إنها "اعتادت مواقف الأزمات في جميع أنحاء العالم"، وتصنف بين أكبر مئة شركةٍ تُنتج انبعاثات الكربون على مستوى العالم، تقول إنها "متأهبة لضمان سلامة موظفيها وعملياتها".
وتنتج "توتال إينيرجيز" النفط في الغابون منذ أكثر من 80 عاماً، ويعمل لديها ما يقرب من 350 موظفاً، مع إنتاجية يومية تبلغ 17000 برميل. كما تمتلك شبكة مكونة من 45 محطة خدمة في جميع أنحاء الغابون.
كذلك تهدد المتغيرات في الغابون إذا تطورت، نحو 110 شركات فرنسية أخرى، تنتج مبيعات تقدر بنحو 3.23 مليارات يورو، بحسب موقع وزارة الخارجية الفرنسية.
بالنسبة إلى فرنسا، أصبحت الغابون في عام 2022 أهمّ وجهة للصادرات الفرنسية بين الدول الستّ الأعضاء في المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط أفريقيا، ومثلت سوقاً للمنتجات الزراعية والسلع الرأسمالية وحتى المنتجات الطبية.
بالتالي، فإن التأثير الأكثر ضرراً بالنسبة لفرنسا بحسب صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية هو سيطرة الجيش على الأنشطة الاقتصادية الاستراتيجية، مثل المواقع الاستخراجية، السيناريو الذي تستبعده "لوفيغارو"؛ كون "السلطة، أياً كانت، سوف تحتاج إلى مستثمرين أجانب"، ما يعزز حاجة البلاد، أي بلاد، إلى شركات إنتاج واستخراج وتصنيع وطنية، أو مشتركة مع قوى غير رأسمالية.
محمد عجمي/الميادين