البث المباشر

سوريا في الانتخابات التركيّة... ناخب حاضر بقوّة

الأحد 14 مايو 2023 - 13:57 بتوقيت طهران
سوريا في الانتخابات التركيّة... ناخب حاضر بقوّة

لن تقف دمشق وحلفاؤها مكتوفي الأيدي أمام العجز التركيّ أو المماطلة، وسيكون الإقدام على عملٍ عسكريّ ضد الجماعات والتنظيمات المسلّحة في الشمال هو الخطوة الأكثر نفعاً.

"سوريا اليوم هي لاعبٌ مهمّ في الانتخابات التركيّة" - الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله

إذا أردنا أنْ نشرح هذا الكلام ونعرضه، في أبسط لغةٍ ممكنة، فإنّ الأمين العام لحزب الله يتحدّث هنا عن سوريا التي كان الرئيس بشّار الأسد يقودها في عام 2011، وعن سوريا التي يقودها الرئيس بشار الأسد نفسه في هذه الأيام المفصلية على مستويَي المنطقة والعالم، من عام 2023، والتي كان لسوريا ذاتها، دور محوريّ في جعلها "مفصليّة" في كلّ المستويات؛ عن سوريا التي ما كان يتخيّل أحد في هذا العالم، ما عدا قلّة قليلة جدّاً من القادة والسياسيين والمراقبين والمنشغلين في هذا الشأن، وفي مقدّمهم رئيسها وقادة محور المقاومة، وعلى رأسهم السيد نصر الله، الذي جزمَ بحتميّة الانتصار السوريّ منذ وقت مبكرٍ من عمر الأزمة في البلاد، أنْ تبلغ هذه النتيجة بعد كلّ ما خُطّط لها وما حدث فيها خلال "عشريّة النار" الدمويّة تلك، بل تحديداً أنْ تبلغ هذه "النتائج التركيّة" بعد أكثر من عشرة أعوام من الحرب التي انغمست فيها إدارة الرئيس رجب طيب إردوغان حتى أذنيها، وبعد 12 عاماً من القطيعة الدبلوماسية بين البلدين بفعل هذا التورّط التركيّ في الأزمة والحرب على الأرض السورية. ويمكن الجزم هنا، بأنّ جميع الخطط والمشاريع التي وُضعَت ورُسِمَت لسوريا في عواصم المنطقة والعالم، منذ بدايات عام 2011 (الخطط الغربيّة – تحديداً البريطانية والأميركية – وُضعت في وقتٍ أبكر من ذلك) لم تقترب مُطلقاً من هذه النتائج، بل ذهبت جُلّها في اتّجاه توقّع سقوطٍ سريع لدمشق ونظامها السياسيّ، مع خلافِ بسيط بشأن عدد الأشهر التي سيصمد فيها هذا النظام، ونحو تغيّر سوريا التي عرفها العالم واختبر مواقفها على مدى 40 عاماً، إلى الأبد، وذهابها، مكبّلةً ممزّقة ومُدماة، إلى "بيت الطاعة" الأميركيّ – الإسرائيليّ.

لم يكن إردوغان نفسه، حتى في أسوأ كوابيسه، يتوقّع هذه النتيجة، وهو من وعد أنصاره وأدواته بالصلاة في الجامع الأموي بعد الاستحواذ على دمشق. هو ذاته، الذي كان في مقدوره في أيّ وقت شاء قبل عام 2011، أنْ يُصلّي في دمشق أو حلب أو اللاذقية أو أيّ مكان يختاره في الأرض السوريّة، كضيفٍ عزيزٍ وصديق مقرّب وشريكٍ أصيل في مشاريع سياسية واقتصاديّة مفيدة وضعتها القيادة السورية وعرضتها عليه في ذلك الزمان، قبل أنْ يختار الانخراط في المشروع الأميركي – الغربيّ – الإسرائيليّ المدمّر لسوريا والمنطقة، ويرى أنّ في إمكانه انتخاب مشروعه الخاص من قلب المشروع الكبير، وهو المشروع الذي زيّنتْه له أحلامه التي تجاوزت حلب لتبلغ بَوادي الموصل وبحر الإسكندريّة وشواطئ سرت (لم يكن ضمن مشروع إردوغان وخططهِ أيّ بنود تتعلّق بتحرير شبرٍ واحدٍ من فلسطين المحتلة، بالمناسبة)، ليجد نفسه أخيراً، بفعل "النتائج السوريّة"، عالقاً في منطقةٍ محاصَرةٍ من إدلب وبعض الجيوب في ريفَي حلب واللاذقية، بين عشرات الألوف من المقاتلين التكفيريين المنحدرين من عشرات الجنسيات، والذين نبذتهم بلدانهم وحكوماتهم بعد أنْ دفعتهم إليه، ومواجهاً لملايين المواطنين الأتراك الذين يشتكون من ازدحام بلادهم باللاجئين الذين حرّضهم ودفعهم إلى ترك بيوتهم وأرضهم، حتى قبل إطلاق رصاصة واحدة في الحرب السورية، ليقاتل بهم دمشق ويبتزّ بهم أوروبا، وفي النهاية، ليجد أنّ أحد أطواق نجاته التي قد تُعِينه في صراعه للبقاء في السلطة، يكمن هناك في دمشق، حيث إنّ سوريا، وما فعله في سوريا بكل نتائجه الكارثية على الداخل التركيّ وعلى سياسة البلاد الخارجية، هما أحد أهمّ المواضيع الرئيسة التي تشغل المواطن والناخب التركيَّين الآن، بل هما المادة الدائمة التي يواجهه بها خصومه على مدار الساعة، ولا يجد لها أجوبةً كافيةً وشافيةً وواقعيّة تُقنع الناخب الغاضب من تداعياتها الاقتصادية القاسية التي يختبرها في حياته العملية اليومية.

لذلك، كان التواصل مع دمشق قبل الانتخابات، و"التطبيع" معها تحت عناوين سياسية كبيرة يوحيان إلى المواطن التركيّ في أنّ كل تلك المشاكل والكوارث والمصاعب الاقتصادية التي يواجهها، والتي سبّبها التورّط في الحرب على سوريا، ستجد سبيلها السريع إلى الحلول، بمجرّد عرض صور اللقاءات السياسية مع المسؤولين السوريين، والأفضل، أنْ يجري تأمين صورة مع الرئيس الأسد على وجه السرعة وقبل نصب الصناديق في مواقعها، وخصوصاً أنّ المعارضة التركية، التي تحظى هذه المرة بتأييد طيف واسع جدّاً داخل المجتمع التركيّ، أعلنت منذ وقت مبكر استعدادها للدخول في حوار بنّاءٍ وجدّي مع دمشق، لحلّ كلّ المصائب التي خلّفتها سياسة إردوغان في سوريا والمنطقة، كما في الداخل التركيّ.

لم ترفض دمشق مبدأ الانخراط في هذا النشاط السياسيّ الذي رعاه وعمل عليه بجدّ، حليفاها الروسيّ والإيرانيّ، فحلّ المشاكل الكبيرة مع تركيا، وإنهاء حالة العداء بين البلدين، ليسا مصلحةً لإردوغان وأنقرة فحسب، بل هما أيضاً مصلحةٌ سوريّة ومصلحة إقليمية بامتياز، لكنّ دمشق، التي عرفت إردوغان جيّداً واختبرته وقت السلم ووقت الحرب، والتي قاومت ببسالة طوال عشرة أعوام وأكثر، وأفشلت مشاريع تدميريّة كبرى لتبلغ هذه النتائج التي تدفع الجميع، لا إردوغان وحده، في اتّجاه العودة إليها، تدرك جيّداً أنّ التنظيف والتنظيم للفوضى الدمويّة العارمة التي خلّفتها السياسة الإردوغانية، بكل ما فيها من مشاكل معقّدة جدّاً بين البلدين، لا يكون من خلال الصور السياسية والعناوين الإعلاميّة العريضة، بل يحتاج إلى عملٍ سياسيّ مُضنٍ، وحراكٍ واضح في الميدان، وتعهّدات مكتوبةٍ ومضمونة على أعلى مستوى، ترسم خطّاً بيانيّاً واضحاً يؤمّن هذه الحلول خلال فترة زمنيّة محدّدة، وهو ما أصرّت عليه دمشق منذ اللحظة الأولى التي انطلقت فيها المبادرات الروسيّة والإيرانية على هذا الصعيد، مع تفهّم الحليفين شروط دمشق ومطالبها الوطنية، وسعيهما الحثيث لدى الجانب التركيّ للتقدّم في خطوات عمليّة إيجابية في هذا الشأن، وصولاً إلى تحقيق رغبةٍ تركيّة ملحّة تتمثّل بحضور وزير الخارجية السوريّ إلى الاجتماع الرباعي في موسكو، وجلوسه في مقابل نظيره التركيّ بعد مصافحته أمام عدسات الكاميرا، وهو ما تمّ بالفعل يوم الثلاثاء الماضي، بعد أنْ رفضته دمشق، أكثر من مرّة، خلال الشهرين الأخيرين.

صحيحٌ أنّ الاجتماع الرباعيّ الأخير لم يأتِ بنتائج عمليّة جديدة، لكنّ في إعلان وزير الخارجية السوريّ، فيصل المقداد، بعد تطرّقه إلى النتائج الإيجابية التي نتجت من تعاون أطراف "آستانا" في بعض القضايا خلال السنوات الماضية، وقوله "إننا في صدد صيغة جديدة مغايرة، نأمل أنْ تكون أكثر ديناميكيّة في التعامل مع مختلف القضايا التي تهمّنا"، ووجود "فرصة سانحة للعمل بصورة مشتركة بين الدولتين، بمساعدة الأصدقاء الروس والإيرانيين، لتحقيق الأهداف والمصالح التي تُحقّق تطلعات الشعبين في البلدين"، إشارة واضحة من رأس الدبلوماسية السوريّة إلى وجود ما هو جديد لدى الأتراك هذه المرّة.

وهذا ما يدعمه كلام وزير الخارجية الروسيّ، سيرغي لافروف، حين تحدّث عن "صياغة خريطة طريق لتطبيع العلاقات التركيّة – السوريّة"، وعن مهمّة موسكو في "تحديد المبادئ التوجيهيّة العامة لمزيد من التحرّك"، وليس فقط في "تعزيز التقدّم التي تمّ إحرازه سياسيّاً"، وتلك إشارة إلى عزم موسكو على تحقيق إنجاز في هذا الصعيد، ليس لجمع أصدقائها وحلفائها في الإقليم للعمل معاً فحسب، بل أيضاً لتعزيز نفوذها في المنطقة والتقدّم خطوات في مواجهة خصمها الأميركيّ الحاضر، الذي يسعى بكلّ قوّة لإفشال أيّ إنجاز أو مساعٍ تعزّز حضور موسكو في المنطقة والعالم. وكان لافروف واضحاً في عرض موقف بلاده الحازم تجاه الاحتلال الأميركيّ للشرق السوريّ. كذلك، جاء حديث وزير الخارجية الإيرانيّ، حسين أمير عبد اللهيان، الذي أشار إلى الإيجابيات التي تحقّقت من خلال هذا الاجتماع، وعدّه "خطوة إلى الأمام". وتلك بدورها، إشارة إيرانية إلى عزم طهران تحقيق إنجاز، في هذا الصعيد، في سياق خطط ترتيب شؤون المنطقة على نحو يتعارض مع المشاريع الأميركية ويُضعفها.

أصرّ وزير الخارجية السوريّ على عرض موقف بلاده بوضوحٍ تام خلال الاجتماع وبعده، بحيث إن "إنهاء الوجود العسكريّ غير الشرعيّ في الأراضي السوريّة" هو مطلب سوريّ أساسيّ لا رجعة عنه، وكان أكثر وضوحاً حين عدّ أنّ أي أمرٍ خلاف موضوع الانسحاب، سيعني المراوحة في المكان، لا أكثر. أمّا وزير الخارجية التركيّ، مولود جاويش أوغلو، الذي اختار أن يُعلّق على الاجتماع، من خلال تغريدةٍ له في موقع "تويتر"، فاكتفى ببعض العناوين العامة التي دأب على طرحها مؤخّراً، وقال إنّ الجانب التركيّ أكّد، خلال الاجتماع، "الحاجة إلى التعاون في مجال مكافحة الإرهاب، والعمل معاً على إرساء أسس عودة السوريين، والمضيّ قدماً في العملية السياسيّة وحماية وحدة أراضي سوريا". ولا جديد هنا سوى الإشارة إلى بدء "العمل معاً" بين الجانبين بصورة مباشرة.

لا يتوقع كثيرون في دمشق أنْ يُقْدِم إردوغان على خطوات عمليّة ملموسة تُحقّق المطالب السورية في المستقبل القريب، في حال فوزه في الانتخابات الرئاسية، التي تفصلنا عنها ساعات فقط، بل لا يتوقّع هؤلاء أن تتمكن المعارضة التركية ذاتها، في حال فوز مرشّحها، من تحقيق إنجازات سريعة في هذا الصعيد، لأنّ إردوغان "الفائز" لن يترك سوريا من دون تحقيق أكبر قدر من المكاسب التي يمكنه تحصيلها على مستوى المحافظة على نفوذه القوي في الشمال السوريّ، ودوره المأمول، اقتصاديّاً وسياسيّاً، في موضوع إعادة اللاجئين وتوطينهم في المناطق الحدودية، وأيضاً لناحية حصوله على ضمانات (أو شراكة ميدانية) في ملفّ إبعاد التنظيمات الكردية عن الحدود. أمّا المعارضة "الفائزة"، فستجد نفسها أمام تِرْكةٍ ثقيلة جدّاً ومليئة بالملفات المعقّدة التي تحتاج إلى أعوام من العمل لحلّها. وفي جميع الحالات، لن تقف دمشق وحلفاؤها مكتوفي الأيدي أمام العجز التركيّ أو المماطلة، وسيكون الإقدام على عملٍ عسكريّ ضد الجماعات والتنظيمات المسلّحة في الشمال هو الخطوة الأكثر نفعاً بالنسبة إليها وإلى جميع الأطراف الراغبة في التقدم نحو حلول مجدية لسوريا والمنطقة.

جو غانم - كاتب سوري

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة