قدَّم الله تعالى إلينا الشَّهر الكريم بأنَّه هو الشَّهر الذي أُنزل فيه القرآن، ومعنى ذلك أنَّه الشَّهر الذي جمع فيه الله سبحانه وتعالى للإسلام كتابه، وأراد للمسلمين أن ينطلقوا من خلال هذا الكتاب، وهو القرآن الكريم، ليجدوا فيه الهدى في كلِّ حالات الضّياع والضّلال، فإذا تاه بنا الطّريق، ولم نعرف إلى أين نسير، فعلينا أن نرجع إلى القرآن ليحدِّد لنا الطريق، سواء في مسارنا الاقتصادي عندما تشتبه الأمور بين الحلال والحرام، أو في المسار الاجتماعي عندما تشتبه القضايا بين الاستقامة والانحراف، أو في المسار السياسي عندما تتردَّد الأمور بين مواقع الاستكبار والاستضعاف ومواقع العدل والظّلم.
فعلينا أن نرجع إلى القرآن الكريم لنتدبّره ونتفهَّمه، لنجد فيه الهدى، فإنَّ هدى الله هو الهدى، وهذا ما عبّر الله تعالى عنه للمسلمين، عندما خاطبهم من خلال الرسول (ص) بقوله تعالى:{وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}، إذا أردتم أن تتقرّبوا إلى أتباع هذا الدين أو ذاك حتى يرضوا عنكم، فلن يرضوا عنكم، إلّا إذا خرجتم من دينكم واتبعتم دينهم {قل إنَّ هدى الله هو الهدى}[البقرة: 120].
وفي القرآن الكريم ما يبيّن لكم كلَّ التفاصيل التي تهديكم إلى الله ورضوانه، سواء تلك التفاصيل في حياتكم العائليَّة أو في حياتكم الاجتماعيَّة، وفي كلّ مواقع الحياة، فإنَّ في القرآن الفرقان، أي ما يفرّق بين الحقّ والباطل، ليحدِّد لكم في كلّ موقف أين هو الحقّ وأين هو الباطل. ولعلَّ المسلمين ضاعوا وضلّوا وابتعدوا عن النَّهج لأنهم أضاعوا القرآن وحوَّلوه إلى كتاب للبَرَكة وللزينة، بدلاً من أن ينفتحوا عليه ليتدبّروه، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمّد: 24].
وفي شهر رمضان، هذا الشهر القرآني، على الإنسان أن يعيش فيه كلّ الخطوط العامَّة للإسلام، فالله تعالى أراد لنا أن نصوم هذا الشَّهر: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة: 185]، وأراد الله تعالى لنا في شهر رمضان، كما أراد لنا في كلّ أيام السنة، أن ندعوه، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر: 60]، وأراد الله لنا فيه، كما في غيره من الشهور، أن نعيش الحضور بين يديه، أن نذكره في كل حالاتنا، أن نسبّحه لتتجلّى عظمته في معنى التَّسبيح، وأن نحمده لنعرف أنَّ الحمد كلّه له، فكلّ محمود يستمدّ حمده منه، وأن نهلّله لنعرف أن لا إله إلا هو، ولنكبّره لنعرف أنَّه الأكبر وكلّ ما عداه هو الأصغر.
وقد ترك لنا القرآن، كما النبيّ محمّد (ص) وأئمّة أهل البيت (ع)، ولا سيّما الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع)، من الأدعية المنفتحة على الله، والَّتي يعيش فيها الإنسان ثقافة المعرفة بالله، والمنفتحة على الرسول والرسالة وعلى الإنسان في كلّ نقاط ضعفه وقوَّته التي ينفتح من خلالها على الله، وعلى حياة الإنسان كلّها في كل معاني القيم الروحية والأخلاقية.
ولذلك، فإن هذه الأدعية، سواء كانت أدعية الصّباح والمساء والأدعية النهارية والليلية وأدعية السَّحر، هي التي تجعل الإنسان إذا وعاها وتفهّمها وحضَّر قلبه عند قراءتها، إنساناً قريباً من الله، قريباً من الناس، قريباً من كل خطوط الرسالة.
ولذلك، حاولوا أن لا تفوتكم هذه الأدعية، وفرّغوا أنفسكم لها في ليلكم ونهاركم، وإذا كان البعض يعتذر بأنَّه مشغول بأمور معيشته وحياته، فإنَّ بإمكانه أن يدعو الله بما أهمّه بدعاء يحفظه أو يُنشئه، ادعُ الله بلغتك الخاصَّة وبلهجتك الخاصَّة، لأنَّ الدعاء يجعلك تحسّ بحضور الله معك، وتشعر بأنَّك تناديه وتناجيه كما لو كان حاضراً أمامك..
إنَّ القرآن الكريم أراد لنا أن نجاهد أنفسنا ونتورَّع عن الحرام، وننفتح على الواجبات، وفي شهر رمضان يكبر هذا الواجب وتكبر هذه المسؤوليَّة.
السيد محمد حسين فضل الله