أثار إسقاط المنطاد بالقوة غضب بكين التي وصفته بأنه عمل مبالغ فيه، وأشارت إلى أنها تحتفظ بالحقّ في استخدام الوسائل اللازمة للتعامل مع المواقف المماثلة.
ماذا كان يفعل المنطاد الصيني فوق الأراضي الأميركية؟
أعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) مطلع الشهر الجاري أنها تتعقب منطاداً صينياً تجسسياً يحلّق في ولاية مونتانا، حيث توجد قواعد جوية حساسة وصواريخ نووية إستراتيجية في منشآت تحت الأرض. وبعد إسقاط المنطاد، قال مسؤولون أميركيون إنَّ منطاد التجسس الصيني الذي تم إسقاطه لم يكن الأول الذي يعبر سماء الولايات المتحدة الأميركية.
ونقلت شبكة "Fox news" الأميركية عن مسؤولين أن منطاداً تجسسياً صينياً سقط قبالة سواحل هاواي قبل 4 أشهر، كما حلّق منطاد صيني آخر فوق أجزاء من ولايتي تكساس وفلوريدا خلال إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب.
في المقابل، رفضت بكين هذه الاتهامات، وأعلنت في البداية أنها تتحقق من تقارير أميركية حول تحليق منطاد تجسسي صيني فوق الأراضي الأميركية. ولاحقاً، أعلنت أن المنطاد مدني، ويستخدم لأغراض البحث العلمي، وخصوصاً لأغراض الأرصاد الجوية. وقد خرج عن مساره بفعل رياح غير متوقعة.
هناك عدة احتمالات تتعلق بالغاية من إرسال المنطاد الصيني، فواشنطن تقول إن مهمته التجسس عليها، فيما تدّعي بكين أنه مخصص لأبحاث الأرصاد الجوية، ولكنه خرج عن السيطرة.
وفي هذا الإطار، قال وليم كيم، الخبير في مناطيد المراقبة في مركز أبحاث ماراثون أنيشياتيف في واشنطن، إنَّ المناطيد الصينية أدوات متطورة يوجهها الذكاء الاصطناعي، وإن مظهر المنطاد الصيني يشبه شكل منطاد الأرصاد الجوية العادي، إلا أنّ حمولته تتكوَّن من أدوات إلكترونية للتوجيه والمراقبة، إضافة إلى الألواح الشمسية لتشغيلها.
وأشار كيم إلى أنَّ من الممكن أن يكون المنطاد قد وصل إلى أميركا عن طريق الخطأ، إذ أرسل في البداية لجمع البيانات خارج الحدود الأميركية قبل أن يتعطل. وثمة احتمال آخر بأن تكون الصين قد أرسلته عمداً لتكتشفه الولايات المتحدة الأميركية، بمعنى أنَّ الهدف الأساسي منه ليس التجسس، بل توجيه رسائل إلى واشنطن وحلفائها، لاسيما الدول المجاورة للصين.
ضاقت الصّين ذرعاً بالأنشطة الأميركية العدائية التي ازدادت خلال الفترة الأخيرة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والتي تهدف واشنطن من خلالها إلى تطويق الصين وخنقها واستفزازها، سواء عبر زيادة تحركاتها العسكرية في بحر الصين الجنوبي أو دعمها تايوان، وورود تقارير عن زيارة محتملة لرئيس مجلس النواب الأميركي الجديد كيفين مكارثي إلى الجزيرة، كأنه لا يكفي ما أحدثته زيارة نانسي بيلوسي إلى تايبيه من توترات بين البلدين، وأيضاً إنشاء التحالفات العدائية للصين، كتحالف أوكوس والتحالفات مع اليابان وكوريا الجنوبية، والزيارة الأخيرة لوزير الدفاع الأميركي لويد أوستن إلى الفلبين، والاتفاق على زيادة 4 قواعد عسكرية أميركية فيها، إضافةً إلى القيود التي تفرضها واشنطن على صادرات الرقائق الإلكترونية إلى الصين والضغط على الدول لعدم التعاون مع بكين في هذا المجال.
كان المنطاد رسالة إلى وشنطن بأن بكين قادرة على دخول الأجواء الأميركية كما تفعل وتنتهك الأجواء الصينية، وأيضاً أن الصين تراقب النشاطات النووية الأميركية، كما أرادت بكين أن ترى رد الفعل الأميركي حول المنطاد. ومن ناحية أخرى، ربما تريد بكين إرسال رسالة أيضاً إلى حلفاء واشنطن، الدول المجاورة للصين، بأنها قادرة على اختراق أجوائهم إذا حاولوا اختراق الأجواء الصينية وتهديد أمنها.
هل ربحت واشنطن وخسرت بكين بعد إسقاط المنطاد الصيني؟
يتوقف فشل المنطاد أو نجاحه في تحقيق مهمته في معرفة الغاية الأساسية منه، والتي لا تعرفها حالياً إلا الصين، فإذا كانت الغاية منه، كما تقول واشنطن، التجسس، فتكون الصين قد حققت مكاسب كبيرة فيما لو كان المنطاد أرسل الصور والمعلومات مباشرة إلى بكين قبل أن يتم إسقاطه.
أما إذا كان المنطاد مخصصاً للأرصاد الجوية، كما تدعي الصين، ولكنه خرج عن السيطرة؛ فعلى الرغم من أنه وضعها في موقف محرج، فإنَّ الأخيرة تكون قد أظهرت، ولو عن غير قصد، ضعف الإدارة الأميركية في اتخاذ القرارات التي لها علاقة بها وضعفها أمام شعبها، وتخبط الداخل الأميركي حول القرارات الخاصة بالصين، ناهيك بإحراج واشنطن أمام حلفائها، لعدم تمكنها من معالجة مسألة المنطاد منذ البداية، وأيضاً إحراجها أمام شعبها وحلفائها بعد تصريح مسؤولين عسكريين أميركيين بأنَّ هناك مناطيد صينية تجسسية تحلّق فوق الأراضي الأميركية منذ عهد ترامب، ولم يتم الكشف عنها.
من ناحية أخرى، من المحتمل أن تشكل نتائج التحقيقات التي تجريها أميركا حول المنطاد الصيني ورقة ضغط على بكين لتنفيذ الشروط الأميركية، وأن تضعف ثقة الدول الأخرى ببكين، إذ ستتهمها بالتجسس عليها، فضلاً عن ازدياد التوتر بين الصين وأميركا، وهذا ما عبرت عنه الصين، إذ قالت إنَّ إسقاط الولايات المتحدة الأميركية للمنطاد أضر بالعلاقات بين البلدين، وحثت واشنطن على عدم اتخاذ المزيد من الإجراءات التي تضر بمصالح بكين، وعدم تصعيد التوتر.
وقد أدى المنطاد الصيني إلى إرجاء الزيارة التي كان سيقوم بها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى بكين لمعالجة مجموعة من الملفات وتقريب وجهات النظر في بعض المواضيع، كالتغير المناخي ومناقشة الحرب الروسية الأوكرانية ومساعدة الصين لروسيا، ولكن لم يكن يتوقع منها تحقيق نتائج في الأمور التي تزيد التوترات بين الجانبين، وخصوصاً فيما يتعلق بموضوع تايوان الذي تعتبره الصين خطاً أحمر، إضافة إلى سعي واشنطن للحفاظ على عالم أحادي القطبية، وهي ترى في الصين المنافس الوحيد الذي لديه نية لإعادة تشكيل النظام الدولي.
في المحصلة، لم يتسبب المنطاد الصيني سوى بمزيد من التوتر في العلاقات بين أكبر اقتصادين في العالم، وستشهد الأسابيع القادمة المزيد من التوترات من النواحي السياسية والاقتصادية من دون أن تصل إلى مرحلة التصادم العسكري، لأنّ كلا البلدين يتجنبان المواجهة العسكرية، على الرغم من تصريح مسؤول عسكري أميركي عن احتمال المواجهة العسكرية مع الصين عام 2025 بسبب تايوان.