وهتف إليّ الصّديق أمجد المشاط من بغداد أن لمن هاذا القول:
ماذا لقيت من الدّنيا وأعجبه
أنّي بما أنا شاك منه محسود
قلت: للأخ المشاط البغداديّ الكريم: هاذا القول لحكيم الشعراء، وشاعر الحكماء أبي الّطيّب أحمد بن الحسين المتنبّي الكوفي.
وهو من رائعته الفذة التي حفظها الكبير والصّغير في شتى الأزمنة والأمكنة في هجاء كافور الإخشيديّ ملك مصر. ومطلع هاذه الفريدة النّفيسة في بابها:
عيد بأيَّةِ حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
أمّا الأحّبة فالبيداء دونهم
فليت دونك بيداً دونها بيد
لولا العلا لم تجب بي ما أجوب بها
وجناء حرف ولا جرداء قيدود
جاب الموضع يجوبه جوباً: قطعه.
والوجناء: الناقة الشديدة، والحَرْف: الضّامرة.
والجرداء: الفرس القصيرة، والقيدود: الّطويلة العنق.
ومن هاذه القصيدة قوله، وفيه بيته المسئول عنه:
وكان أطيب من سيفي معانقة
أشباه رونقه الغيد الأماليد
لم يترك الدّهر من قلبي ولاكبدي
شيئاً تتيّمه عين ولا جيد
صخرة أنا مالي لا تحرّكني
هاذي المدام ولا هاذى لأغاريد
ماذا لقيت من الدّنيا وأعجبه
أنّي بما أنا شاك منه محسود
وهاذا هو البيت المسئول عنه.
إنّي نزلت بكذّابين ضيفهم
عن القرى وعن التّرحال محدود
جود الرّجال من الأيدي وجودهم
من اللسان فلا كانوا ولا الجود
ما يقبض الموت نفساً من نفوسهم
إلاّ وفي يده من نتنها عود
ولذَّ للأخ عبد المعطي حسن من الإسكندريّة على بحر الرّوم بمصر سؤالي عن القائل:
لكلّ شيء إذا ما تمّ نقصان
فلا يغرّ بطيب العيش إنسان
فقلت لحضرته الكريمة: هاذا قول أبي البقاء الرّنديّ الأندلسيّ في رثاء الأندلس وبعده:
هي الأمور كما شاهدتها دول
من سرّه زمن ساءته أزمان
وهاذه الدّار لا تبقي على أحد
ولا يدوم على حال لها شان
فجائع الدّهر أنواع منوّعة
وللزّمان مسرّات وأحزان
وللحوادث سلوان يسهّلها
وما لما حلّ بالإسلام سلوان
يا غافلاً وله في الدّهر موعظة
إن كنت في سنة فالدّهر يقظان
وأبو البقاء هو صالح بن يزيد صالح بن موسى من أبناء رندة قرب الجزيرة الخضراء، وإليها نسب.
عاش معظم القرن السابع الهجري، إذ ولد سنة إحدى وستّ مئة، وتوفي سنة أربع وثمانين وستّ مئة.
وقد شهد الفتن التي عصفت بالأندلس، ورأى تهاوي القواعد المسلمة بأيدي الأسبان الذين وحدهم تفرّق المسلمين، وحقدهم هم عليهم، وطمعهم فيهم.
برع في الشّعر والّنثر، وأجاد في المدح والغزل، والوصف والّزهد.
وهو من حفظة الحديث والفقهاء. ومن غزله:
يا سالب القلب منّي عندما رمقا
لم يبق حبّك لي صبراً ولا رمقا
وكنت في كلفي الدّاعي إلى تلفي
مثل الفراش أحبّ النّار فاحترقا
ومنه أيضاً:
لا وألحاظ لها ساحرة
نفثت في القلب لا في العقد
لا طلبت الثأر منها ظالماً
وأنا القاتل نفسي بيدي
*******