سألني الأخ الكريم مجتبى الزنديّ من عاصمة الشعر الفارسيّ البديع شيراز أن لمن هذا المعنى:
لو كان ينجي من الرّدى حذر
نجّاك مّما أصابك الحذر
قلت: هذا القول أوّل ثلاثة أبيات رثى بها أبو يحيى محمّد بن كناسة، وكناسة لقب أبيه الذي اسمه عبد الأعلى بن عبد الله بن خليفة رثى بها حمّاداً الّراوية العالم بأيّام العرب، أي: حروبها وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها، وهو جامع المعلّقات، أو السّبع الّطوال.
وكانت ملوك بني أميّة تقدّمه وتستزيره، فيفد عليهم، وينال منهم، ويأنسون به. وهذه هي أبيات ابن كناسة في رثائه:
لو كان ينجي من الرّدى حذر
نجّاك ممّا أصابك الحذر
يرحمك الله من أخي ثقة
لم يك في صفو ودّه كدر
فهكذا يفسد الزّمان وينسى
العلم فيه ويدرس الأثر
وكان حمّاد الرّاوية قد حفظ القرآن الكريم، وصحّف في نيّف وثلاثين حرفاً منه.
قال محّمد بن المثنّى: انصرفت مع بشر بن الحارث في يوم أضحى من المصلّى، فلقي خالد بن خداثي المحدّث، فسلّم عليه، فقصّر بشر في السّلام، فقال خالد: بيني وبينك مودّة اكثر من ستّين سنة، فما تغيّرت عليك، فما هذا التّغيّر؟
قال بشر: ما ها هنا تغيير ولا تقصير، ولكن هذا يوم تستحبّ فيه الهدايا، وما عندي من عرض الدّنيا شيء أهدي لك، وقد روي في الحديث أنّ المسلمين إذا التقيا، كان أكثرهما ثواباً أبشّهما بصاحبه. فتركتك لتكون أفضل ثواباً منّي.
قلت: فما أحلى هذا الجواب!
وما أسنى هذه البصيرة النافذة في دين الله!
وسألني الأخ زين الدّين مصطفى من ديار بكر في تركيا عن قائل هذا البيت:
كذا عادة الغربان تكره أن ترى
بياض البزاة الشّهب بين سوادها
قلت: لهذا البيت حكاية، وهي أنّ الملك المعظّم مظفّر الدّين صاحب إربل سخط على عزّ الدّين أبي القاسم نصر بن عقيل بن نصر الفقيه الشافعّي الفاضل، وأخرجه منها، فانتقل إلى الموصل فكتب إليه صديقة أبو الدّرّ الرّومي تلك الأبيات، وهي:
كذا عادة الغربان تكره أن ترى
بياض البزاة الشّهب بين سوادها
وقبل هذا البيت المسئول به أخواه الآتيان:
أيا ابن عقيل لا تخف سطوة العدا
وإن أظهرت ما أضمرت من عنادها
وأقصتك يوماً عن بلادك فتية
رأت فيك فضلاً لم يكن في بلادها
أشار إلى من سعوا بعزّ الدّين أبي القاسم نصر بن عقيل إلى الملك مظفّر الدّين صاحب إربل، حتّى غيّروا خاطره عليه، وكان ذلك سنة اثنتين، أو ثلاث وستّ مئة.
دخل أبو الفتح ابن شفيع على الصّالح المشهور أبي بكر الشّبلي عائداّ له، فسمعه يقول:
صحّ عند الناس أنّي عاشق
غير أن لم يعلموا عشقي لمن
وحكى الخطيب البغداديّ في تاريخه أنّ ابا الحسن التّميميّ قال: دخلت على أبي بكر في داره يوماً وهو يهيج، ويقول:
على بعدك ما يصبر
من عادته القرب
ولا يقوى على هجرك
من تيّمه الحبّ
فإن لم ترك العين
فقد يبصرك القلب
وذكر الخطيب أيضاً أنّ الشّبليّ أنشد لنفسه:
فصت الشّبيبة والحبيبة فانبرى
دمعان في الأجفان يزدحمان
ما أنصفتني الحادثات رمينني
بمودّ عين وليس لي قلبان
*******