وكتب إلي مصباح الود القديم الاخ المفدى ابو فيصل العيارشي من الجزائر العاصمة دامت عصية على نوائب الدهر ان ما بقي عندك من مكنون الدر النثير في الصداقة؟
وجوابي له هو: انني ما زلت احفظ على الاديب الجدير بالتقديم ابد الآبدين جامع العلم والفن والفوق والذوق الاستاذ الشيخ ابي حيان التوحيدي ما سطره في كتابه الصداقة والصديق في هذا الشأن، ونصه:
قلت لأبن الأبهري: من الصديق؟
فقال: من سلم سره لك، وزين ظاهره بك، وبذل ذات يده عند حاجتك، وعف عن ذات يدك عند حاجته.
يراك منصفاً وان كنت جائراً، ومفضلاً وان كنت ممانعا.
رضاه منوط برضاك، وهو محوط بهواك، ان ضللت هداك، وان ظمئت ارواك وان عجزت آداك.
يبين عنك بالجسم والرسم، ويشاركك في القسم والوسم.
قلت: اما الوصف، فحسن، واما الموصوف، فعزيز.
فقال: انما عز هذا في زمانك حين خبثت الأعراق، وفسدت الأخلاق، واستعمل النفاق في الوفاق، وخيف الهلاك في الفراق.
والله لقد شاهدت لشيخنا ابن طاهر اصدقاء ينظرون له على مودة اذكى من الورد والعنبر.
اذا لحظهم بطرفه تهللوا، واذا ناقلهم بلفظه تدللوا، واذا تحكم عليهم تعجلوا، واذا امسك عنهم تولوا وخولوا.
وكانوا يجدون به ما لا يجدون بأهلهم وأولادهم (رحمة الله عليهم) فقد كانوا زينة الأرض في كل حال من الشدة والخفض. وإني لأذكرهم، فأجد في روحي روحاً من حديثهم.
وكان المرحوم ابوبكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي البصري قد فارق هذه الدنيا سنة احدى وعشرين وثلاث مئة عن ثمان وتسعين سنة ثرة من العطاء من رائق الشعر، وفائق النثر، وفصيح اللغة، وصحيح الحديث، حتى ان العلماء المتقدمين كانوا يقولون: ابن دريد أعلم الشعراء وأشعر العلماء.
وأجمعوا أنه كان مفيداَ مبيد لا يمسك درهماً سخاءً وكرما، أي: أنه كان يستفيد بعلمه وشعره مالاً كثيراً، لكنه يبيده، أي: ينفقه على المحتاجين من ساعته.
ولذا رثاه النديم الفاضل صاحب الفنون والاخبار والنوادر اللطيف الظريف جحظة البرمكي بقوله:
فقدت بابن دريد كل فائدة
لما غدا ثالث الأحجار والترب
وكنت ابكي لفقد الجود منفرداً
فصرت ابكي لفقد الجود والادب
والترب- بضم التاء وفتح الراء- جمع تربة، مثل غرفة وغرف، ونقطة ونقط.
وقال ابو علي الفارسي احمد بن عبد الغفار حجة اللغوتين والنحاة: وكنت اسأله وهو مفلوج، فيجيب عن شكوكي في اللغة اسرع من البرق.
وسألته يوماً ان ينشد في من شعره، فقال لي: حال الجريض دون القريض يا بني!
وكان هذا الكلام آخر ما سمعته منه. والجريض: الغصّة والشّدّة، والقريض: الشعر.
واول من ضرب هذا المثل الشاعر الجاهلي عبيد بن الأبرص قاله للنعمان بن المنذر حين ورد عليه في يوم نحسه الذي كان يقتل فيه كل من ورد عليه مهما كان بعيداً عنه، او قريباً منه، فألم له، ومع ذلك قال له: انشدني من شعرك، فقال عبيد حين ذاك: حال الجريض دون القريض.
*******