وأغلب المعارك العربية، خلال القرن الماضي على الأقل، تنتمي لنوعية الحروب الباهتة، والتي تركت - حتى في انتصاراتها - الظروف بعدها أسوأ مما قبلها، وتأتي حرب تشرين 73 على رأس الشواهد العديدة والمستمرة على أمة نسيت معنى الحرب، وإن كانت واقعة دائمًا في قوائم الضحايا.
لكن انتصار تموز 2006، وحده، يقف علامة فارقة بين زمنين، زمن الهزائم والتراجع، وزمن آخر لم نعاين في أيامه سوى انتصارات، وكسرًا تلو كسر لأطواق حديدية ظلت تلتف حول أعناقنا، حتى لكأنها صارت جزءًا منا.
كان تموز، ولا يزال، هو لحظة رفع يد الحق إلى السماء، يوم لله وعيد، شاهد حي على الإيمان، ونذير باقٍ على المصير المنتظر، والأكيد.
ربما تبقى صورة معركة وادي الحجير، لبقايا آليات وكرامة ما كان يدعى أنه أقوى جيش في الشرق الأوسط، هي واحدة من أكثر الصور المستدعاة للذاكرة في تموز، حين أبطأ الزمن فجأة، ليعاين نصرًا من الله غير مسبوق في تاريخ الصراع الوجودي العربي الصهيوني.
لكن في الحقيقية ما ينقص تموز هو صورة من الفضاء للمنطقة وللكوكب كله، في هذا الوقت من عام 2006.
في العام 2006، كانت المنطقة العربية تنتظر شرق أوسط جورج بوش وكونداليزا رايز الجديد، وكانت الدماء العربية في لبنان هي آلام المخاض المنتظر، وكانت اجتماعات ما يُقال إنها "قمم عربية" تتوالى، وتدعو للاستسلام أمام جيش لا يمكن قهره، بمعاييرهم المختلة، وقلوبهم المهزومة الخانعة.
كانت شرارة الحرب الصهيونية مفتعلة، ما يثبت أن التجهيز والتنسيق للعدوان الشامل على لبنان كان ينتظر فقط الذريعة، وكانت الكلمات تخرج من العواصم العربية وكأنها نقل بالكربون عن بعضها البعض، عدا دمشق، التي ظلت وستظل البوصلة العربية الصادقة، لكن أيام تموز، التي ختمت بتحقق الوعد الصادق، والنصر الإلهي، كتبت فصلًا جديدًا بالمنطقة، عكس ما أراده مشعلو الحرب منذ البداية.
كانت غطرسة السلاح الصهيوني قد وصلت إلى ذروتها، فبدت القوة في لحظة ما قادرة على أي شيء تريد، وكان وهم الاستسلام العربي قد وصل أيضًا إلى نهاية الطريق المسدود، وفقد العصر العربي القديم كل استطاعة للتقدم يومًا واحدًا أكثر، وكان الجميع ممن وضع رهانه على الأميركي في حال إفلاس كامل، وعجز فاضح.
الخطة الصهيونية للحرب لم تختلف عن كل خططها وحروبها السابقة، معركة تكسير عظام خاطفة، بأثمان بسيطة، تؤدي لنتائج هائلة، مثل الضربة المروعة التي واجهتها الجيوش العربية الثلاثة الكبرى في 1967، ففقدت قدرتها على القتال خلال ساعات، وضربت الشرق الأوسط بأعظم إعصار عرفه حتى ذلك الوقت.
وزاد في الجعبة الصهيونية المباركة العربية، والتي لم تكن وقتذاك تتغطى بالحياء أو المداهنة؛ قادة مصر والسعودية والأردن حملوا حزب الله مسؤولية الحرب فور انطلاق أول قذيفة صهيونية، وكان الجميع في الصورة الأولى من حرب تموز يتصرف وفقًا لخبرات ماضية، ومعرفة كاملة بحجم الدعم الأميركي لـ"تل أبيب"، ومدى التصميم الصهيوني على إنهاء الخطر القائم، والوحيد.
الغريب في التخطيط الصهيوني، أن الصهيوني وهو ينطلق من حقائق بالفعل، أنه كان يعلم أن حزب الله هو التهديد الأخطر على مشروعهم ذاته، ولم يكن يرى في لبنان مجرد جبهة ساخنة، لا تغطيها معاهدة سلام فقط، وإنما كان يؤمن بقدرتها على هز أساسات استمرار المشروع الصهيوني.
صمود حزب الله، ومن ورائه لبنان كله، اندفع فوق التخطيط والمؤامرة والحسابات، كسر الإرادة الأميركية، وفجر الوهم الصهيوني، واستمرت الحرب نزيفًا لا يطاق للصهاينة، للمرة الأولى منذ احتلالهم أرض فلسطين، كان الكيان في ورطة من لا يستطيع اتخاذ قرار، لتنقلب الأمور منذ هذا التاريخ، وإلى اليوم.
خلال كل هذه السنوات كانت ثمار تموز تسّاقط على الرؤوس، وفي معارك سيف القدس الأخيرة. كانت ورطة الكيان تتكرر، وقف جيش العصابات الصهيونية مترنحًا، وعاجزًا تمامًا عن فعل أي شيء سوى القتل الممنهج في غزة، والرد على قصف المقاومة العنيف، والبطولي، بتركيز قصفه على مدنيين أبرياء، لكنه لم يستطع وقف سيل الصواريخ في أي لحظة، أو ضمان أمن عاصمته على الإطلاق.
تدحرج الكيان الصهيوني هبوطًا، منذ انتصار العام 2000 المجيد، من الهروب، ثم الارتضاء تمامًا بالكمون داخل حدود أغلب فلسطين التاريخية عقب النصر المؤزر في تموز 2006، إلى فقدان التوازن تمامًا في 2021 أمام الصواريخ التي تستهدف قلبه الصغير جدًا، والممتد على مساحة جغرافية محدودة ومكشوفة، ويدرك قادته المرتعشون أن دخول حرب كبيرة أخرى في المنطقة قد تعني النهاية فعليًا.
أحمد فؤاد