إن اباه الامام السجاد عليه السلام عندما حضرته الوفاة اوصى ان يكون ابنه محمدا اماماً من بعده في حضور سائر أبنائه وعشيرته وسلّمه صندوقا.. تذكر الروايات انه مملوء بالعلم.. وتذكر ان فيه سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله وقال له:"يا محمد هذا الصندوق فاذهب به الى بيتك".
ثم قال:"أما إنه لم يكن فيه دينار ولا درهم، ولكنه كان مملوءا علما". لعل هذا الصندوق يرمز الى ان الامام السجاد سلّم ابنه مسؤولية القيادة الفكرية والعملية(فالصندوق مملوء بالعلم) وسلّمه مسؤولية القيادة الثورية(سلاح النبي).
ومع بدء الامام واتباعه بنشاطهم الواسع في بث تعاليم اهل البيت عليهم السلام يتسع نطاق انتشار الدعوة، يتخذ ابعادا جديدة تتعدى مناطقها السابقة في المدينة والكوفة، وتجد لها شيوعا في اصقاع بعيدة عن مركز السلطة الاموية، وخراسان في مقدمة تلك البقاع كما تحدثنا الروايات التاريخية.
إن الواقع الفكري والاجتماعي المزري للناس كان يدفع الإمام واتباعه نحو حركة دائبة لا تعرف الكلال والملل من أجل تغيير هذا الواقع والنهوض بالواجب الإلهي ازاء هذا الانحراف. إنهم يرون غالبية الناس قد خضعوا للجو الفاسد الذي أشاعه بنو أمية فغرقوا الى الأذقان في مستنقع حياة آسنة موبوءة، حتى أضحوا كحكامهم لا يفقهون قول، ولا يصيخون لنصيحة سمعا"ان دعوناهم لم يستجيبوا لنا". ومن جهة اخرى يرون دراسات الفقه والكلام والحديث والتفسير تنحو منحى استرضاء الطاغوت الأموي وتلبية رغباته ومن هنا فإن كل أبواب عودة الناس الى جادة الصواب كانت موصدة لولا نهض مدرسة أهل البيت بواجبها"وان تركناهم لم يهتدوا بغيرنا".
اتجهت مدرسة أهل البيت فيما اتجهت الى تقريع اولئك الذين باعوا ذممهم من العلماء والشعراء، في محاولة لايقاظ ضمائرهم أو ضمائر أتباعهم من عامة الناس. نرى الإمام يقول للكميت الشاعر مؤنباً: "امتدحت عبد الملك؟" قال: ما قلت له يا إمام الهدى، وإنما قلت يا أسد، والأسد كلب، ويا شمس، والشمس جماد، ويا بحر، والبحر موات، ويا حيّة، والحيّة دويبة منتنة، ويا جبل، وإنما هو حجر أصمّ، فتبسم الامام وأنشد الكميت بين يديه:
من لقلب متيم مستهام
غير ما صبوة ولا أحلام
وبهذه الميمية يضع الحدّ الفاصل بين الاتجاه العلوي والاتجاه الأموي في المكانة والسيرة في صورة فنية رائعة خالدة. ومن الأبعاد الأخرى لنشاط مدرسة اهل البيت في هذه المرحلة سرد ما أحاط بأهل بيت رسول الله واتباعهم من ظلم واضطهاد وقتل وتشريد وتعذيب في محاولة لاستثارة عواطف الناس الميتة، وتحريك ضمائرهم الرخوة، واستنهاض عزائمهم الراكدة، وتوجيههم وجهة ثورية حركية.
وفي دائرة اضيق نرى ان علاقة الامام بشيعته تتخذ خصوصيات متميزة، نراه بين هؤلاء الأتباع كالدماغ المفكر بين اعضاء الجسد الواحد، يغذيهم ويمدهم بالحيوية والحركة والنشاط باستمرار. وتتوفر بأيدينا وثائق بين هذا الارتباط متمثلا بإعطاء المفاهيم والتعاليم الصريحة لهؤلاء الأتباع، وبتنظيم مترابط محسوب بينهم. منها وصية الامام الباقر عليه السلام لجابر الجعفي في أول لقاء له بالإمام ان لا يقول لأحد انه من الكوفة، وليظهر رجل من أهل المدينة، وبذلك يعلّم هذا التلميذ الجديد، الذي لمس الامام فيه قدرة على حفظ الاسرار، درس الكتمان..
وهذا التلميذ الكفوء اصبح بعد ذلك صاحب سرّ الامام. ويبلغ به الأمر مع الجهاز الحاكم ان يقول عنه النعمان بن بشير: "كنت ملازما لجابر بن يزيد الجعفي، فلما ان كنّا بالمدينة، دخل علي أبي جعفر عليه السلام فودّعه وخرج من عنده وهو مسرور، حيث وردنا الأخيرجة (من نواحي المدينة) يوم جمعة فصلّينا الزوال فلما نهض بنا البعير اذا أنا برجل طويل آدم(أسمر) معه كتاب فناوله، فقبّله ووضعه على عينيه، وإذا هو من محمد بن علي(الباقر) الى جابر بن يزيد وعليه طين أسود رطب.
فقال له: متى عهدك بسيّدي؟ فقال: الساعة. فقال له: قبل الصلاة أو بعد الصلاة؟ فقال: بعد الصلاة. فقال: ففكّ الخاتم وأقبل يقرأه ويقبض وجهه حتى أتى على آخره، ثم أمسك الكتاب فما رأيته ضاحكا ولا مسرور، حتى وافى الكوفة.
يقول نعمان بن بشير: فلما وافينا الكوفة ليلا بتّ ليلتي، فلما أصبحت أتيت جابر الجعفي إعظاما له فوجدته قد خرج عليّ وفي عنقه كعاب قد علّقها وقد ركب قصبة(كما يفعل المجانين) وهو يقول: أجد منصور بن جمهور.. أميراً غير مأمور، وأبياتا من نحو هذا فنظر في وجهي ونظرت في وجهه فلم يقل لي شيئ، ولم أقل له، وأقبلت أبكي لما رأيته، واجتمع عليّ وعليه الصبيان والناس، وجاء حتى دخل الرّحبة، وأقبل يدور مع الصبيان، والناس يقولون: جُنّ جابر بن يزيد.
فوالله ما مضت الأيام حتى ورد كتاب هشام بن عبد الملك إليّ وإليه ان انظر رجلا يقال له: جابر بن يزيد الجعفي فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه. فالتفت الى جلسائه فقال لهم: من جابر بن يزيد الجعفي؟ قالوا: أصلحك الله كان رجلا له علم وفضل وحديث، وحجّ فجنّ وهو ذا الرحبة مع الصبيان يلعب معهم.
قال: فأشرف عليه فإذا هو مع الصبيان يلعب على القصب. فقال: الحمد لله الذي عافاني من قتله". هذا نموذج من نماذج الارتباط بين الإمام وخاصة اتباعه، يوضّح دقّة التنظيم والارتباط، ويبين كذلك نموذجا لموقف السلطة الحاكمة من هؤلاء الاتباع، ويؤكد ان الجهاز الحاكم لم يكن غافلا تماما عن علاقة الإمام بأتباعه المقربين، بل كان يراقب هذه العلاقات ويحاول اكتشافها ومجابهتها.
وبالتدريج يبرز جانب المجابهة في حياة الامام الباقر عليه السلام وفي حياة الشيعة ليسجل فصلا آخر في حياة أئمة أهل البيت عليهم السلام. النصوص التاريخية الموجودة بين أيدينا وهكذا الروايات الحديثية لا تتحدث بصراحة عن حركة مقاومة سياسية حادة ينهض بها الإمام. وهذا يعود الى عوامل كثيرة منها جوّ البطش والتنكيل المهيمن على المجتمع مما يفرض عنصر التقية بين أتباع الامام الذين هم المطلعون الوحيدون على حياة الامام السياسية.
لكن ردود الفعل المتشددة التي يبديها العدو تبين عمق العمل الجهادي. فحين يتخذ جهاز حاكم مقتدر كجهاز عبد الملك بن مروان، الذي يعتبر اقوى حاكم أموي، ضد الامام الباقر عليه السلام كل أسباب الشدة والحدة، فإن ذلك يدل دون شك على إحساس الخليفة بالمخاطر التي تواجهه جرّاء حركة الامام وأتباعه. لو كان الامام منهمكا فقط بنشاط علمي، لا ببناء فكري وتنظيمي، فان الجهاز الحاكم لم يكن من مصلحته ان يتشدّد مع الامام، لأنّ ذلك يدفع بالامام وبأتباعه الى موقف ساخط متشدّد كالذي اتخذه الثائر العلوي شهيد فخ الحسين بن على من السلطة. باختصار، موقف السلطه المتشدّد من الامام الباقر عليه السلام يمكن فهمه على انه رد فعل لما كان يمارسه الامام من عمل معارض للسلطة. من الأحداث الهامة في أواخر حياة الامام الباقر عليه السلام استدعاء الامام الى الشام عاصمة الخلافة الأموية. فالخليفة الأموي أراد ان يستوثق من موقف الإمام تجاه الجهاز الحاكم فأمر باعتقاله وارساله مخفورا الى الشام (وفي بعض الروايات ان الحكم هذا شمل ابنه الشاب ايضا جعفراً الصادق). واصل الإمام في السجن عمله التغييري فأثّر على من معه في السجن.
بلغ الأمر هشاما فكَبُر عليه ان يرى حدوث مثل ذلك في عاصمته المحصنة من التأثير العلوي. فأمر أن يؤخذ السجين ومن معه على مركب سريع(البريد) ويرسل الى المدينة حيث مسكنه ومحل إقامته، وأمر ان لا يتعامل أحد في الطريق مع هذه القافلة المغضوب عليها ولا يزودها بماء أو طعام. مرّت ثلاثة ايام من السير المتواصل انتهى خلالها ما في القافلة من ماء وطعام. ووصلوا"مدين". وأغلق أهل المدينة حسب ما لديهم من أوامر أبواب مدينتهم، وأبوا ان يبيعوا متاعا.
اشتد على أتباع الإمام الجوع والعطش. صعد الإمام على مرتفع يطل على المدينة نادى بأعلى صوته: "يا أهل المدينة الظالم أهله، أنا بقية الله، يقول الله(بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ)". يقول الراوي: وكان بين أهل المدينة شيخ كبير فأتاهم فقال: يا قوم هذه والله دعوة شعيب عليه السلام. والله لئن لم تخرجوا الى هذا الرجل بالأسواق لتؤخذنّ من فوقكم ومن تحت ارجلكم فصدّقوني وأطيعوني.. فاني لكم ناصح. استجاب أهل المدينة لدعوة الشيخ فبادروا وأخرجوا الى أبي جعفر وأصحابه الأسواق. وآخر فصل في هذه الرواية يبين أيضا بطش الخليفة العباسي وتجبّره. فبعد ان فتح أهل المدينة أبوابها للإمام وصحبه، كتب بجميع ذلك الى هشام.
فكتب هشام إلى عامله على مدين يأمره بأن يأخذ الشيخ فيقتله(رحمة الله عليه وصلواته). ومع كل ذلك، يجتنب الامام أيّ مواجهة حادّة ومجابهة مباشرة مع الجهاز الحاكم. فلا يعمد الى السيف، ولا يسمح للأيدي المتسرّعة الى السلاح ان تشهره، ويوجهها توجيها حكيم، وسيف اللسان ايضا لا يشهره إذا لم يتطلب عمله التغييري الأساسي الجذري ذلك. ولا يسمح لأخيه زيد، الذي بلغ به الغضب مبلغه وثارت عواطفه أيما ثورة، أن يخرج(يثور) بل يركز نشاطه العام على التوجيه الثقافي والفكري.. وهو بناء أساس أيديولوجي في اطار مراعاة التقية السياسية. ولكن هذا الأسلوب لم يكن يمنع الإمام ـ كما اشرنا ـ من توضيح حركة الإمامة لأتباعه الخلّص، وإذكاء أمل الشيعة الكبير، وهو إقامة النظام السياسي بمعناه الصحيح العلوي في قلوب هؤلاء، بل يعمد احيانا الى إثارة عواطفهم بالقدر المطلوب على هذا الطريق، والتلويح بمستقبل مشرق هو احد السبل التي مارسها الإمام الباقر عليه السلام مع أتباعه.
وهو يشير ايضا الى تقويم الامام عليه السلام للمرحلة التي يعيشها من الحركة. تسعة عشر عاما من إمامة الباقر عليه السلام تواصلت على هذا الخط المستقيم المتماسك الواضح.. تسعة عشر عاما من التعليم الايديولوجي، والبناء، والتكتيك النضالي، والتنظيم، وصيانة وجهة الحركة، والتقية وإذكاء روح الأمل.. تسعة عشر عاما من مسير شائك وعر يتطلب كثيرا من الجدّ والجهد، وحين أشرفت هذه الأعوام على الانتهاء وأوشكت شمس عمره المبارك على المغيب، تنفّس أعداؤه الصعداء، لأنهم بذهاب هذا القائد الموجّه سوف يتخلّصون من مصدر إثارة طالما قضّ مضاجعهم وسرق النوم من عيونهم، لكنّ الإمام خيّب آمالهم وفوّت عليهم هذه الفرصة، حين جعل من وفاته مصدر عطاء، ومنطلق إثارة ووسيلة توعية مستمرة!
لقد وجّه ولده الصادق عليه السلام في اللحظات الأخيرة من حياته توجيها يمثل نموذجا رائعا من نماذج التقية التي مارسها الامام الباقر عليه السلام والأسلوب الذي استعمله في مرحلته الزمنية الخاصة. في رواية عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: قال لي أبي:"يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب تندبني عشر سنين بمنى ايام منى". وهذه الرواية لم يقف عندها من بحث في حياة الامام الباقر وغفلوا عما فيها من دلالات كبيرة، لقد خلّف الامام(800) درهم، وأوصى ان يخصص جزء منها لمن يندبه في مني... وندب الإمام في منى له معى كبير.
إنه عملية احياء ذلك المصدر الذي كان يشعّ دائما بالتوعية والإثارة وخلق روح الحماس والمقاومة. واختيار منى بالذات يعني مواصلة العمل في وسط تمركز الوافدين من كل ارجاء العالم الإسلامي، خلال فترة الاستقرار الوحيدة في موسم الحج. فكل مناسك الحج يمرّ بها الحاج وهو في حركة دائبة مستمرة، إلا في منى، حيث يبيت الليلتين او الثلاث، فيتوفر لديه الوقت الكافي لكي يسمع ويطلع. وندب الامام في هذا المكان سيثير التساؤل عن شخصية هذا المتوفى، من هو؟
فيحصلون على الجواب من أهل المدينة الذين عاصروه، انه من ابناء رسول الله، وأستاذ الفقهاء والمحدّثين، ولماذا يندب في هذا المكان؟ ألم يكن موته طبيعيا؟ من الذي قتله أو سمّه؟ هل كان يشكل خطرا على الجهاز الأموي؟ و.. و.. عشرات الأسئلة كانت تثار حين يندب الامام في هذا المكان ثم يحصل السائلون على الاجابة.. وتنتشر الأخبار في أطراف البلاد واكنافها بعد عودة الحجيج الى اوطانهم. وكان هنالك في مواسم الحج من يأتي من الكوفة والمدينة ليجيب عن هذه التساؤلات مغتنماً فرصة تجمّع المسلمين. وليبثّ روح التشيّع من خلال اعظم قناة إعلامية آنذاك.
هكذا عاش الإمام، وهكذا خطط لما بعد وفاته، فسلام عليه يوم ولد ويوم جاهد ويوم استشهد في سبيل الله ويوم يبعث حيا. توفّي الامام الباقر عليه السلام وهو في السابعة والخمسين من عمره، على عهد هشام بن عبد الملك، وهو من أكثر ملوك بني أمية اقتدارا. ورغم ما كانت تحيط بالحكومة الأموية آنذاك من مشاكل ومتاعب، فإن ذلك لم يصرفها عن التآمر على القلب النابض للشيعة، أي الإمام الباقر، فأوعز هشام الى عملائه ان يدسّوا السم للإمام، وحقق بذلك انتصاره في القضاء على أخطر أعدائه.