هي تأتي بعد سلسلة ردود إيرانية على «الضغوط القصوى»، أي الحرب الهجينة التي تشنّها الولايات المتحدة على هذا البلد، والتي وصلت إلى ذروتها مع اغتيالها للجنرال قاسم سليماني في مطلع كانون الثاني/يناير من هذه السنة.
قصف قاعدة «عين أسد»، وقبله احتجاز طهران ناقلة بريطانية في مقابل احتجاز إحدى ناقلاتها، وإسقاطها لطائرة تجسّس مسيّرة أميركية اخترقت مجالها الجوّي وإطلاقها قمراً صناعياً عسكرياً إلى الفضاء خلال الشهر الماضي، تشكّل جميعها جزءاً من سلسلة الردود المذكورة.
غير أن إرسال الناقلات المحمّلة بالوقود إلى ما تعتبره واشنطن «حديقتها الخلفية»، يمثّل في توقيته رفعاً لسقف المواجهة لسببين رئيسيّين:
أوّلاً، لأنه يهدف إلى تعطيل فاعلية الأداة المفضّلة للحرب التي تستخدمها الإدارة الأميركية، أي الضغوط الاقتصادية والتجارية والمالية، عبر تسجيل سابقة قد تشجّع أطرافاً دولية وإقليمية أخرى، في مقدّمتها الصين وروسيا، تخوض بدورها صراعاً متفاوت الحدّة مع إدارة ترامب، على أن تحذو الحذو نفسه.
وثانياً، لأنه تمّ في سياق معركة مستعرة وصعبة باشرتها الولايات المتحدة في بلدان أميركا الوسطى واللاتينية لاستعادة سيطرتها عليها، من خلال إسقاط أنظمتها الوطنية، وهي لم تتمكّن من حسمها إلى الآن، رغم تحقيقها لبعض النجاحات.
«الحديقة الخلفية» المفترضة مرشحة للتحوّل إلى ساحة تجاذب دولي، مع ما يعنيه ذلك بالنسبة إلى الإمبراطورية المنحدرة وإلى عقيدة مونرو التي كانت المحطّة الأولى لصيرورتها قوّة دولية.
تعطيل فاعلية الحرب الاقتصادية
لجأت الولايات المتحدة باستمرار، خلال العقود الماضية، إلى استخدام سياسة الحصار والتجويع والضغوط الاقتصادية والتجارية والمالية كإحدى أدواتها، في مسعاها لفرض سيطرتها على بلدان الجنوب، عبر تطويع أو إسقاط أنظمتها الوطنية، وما حصارها المزمن لكوبا سوى مثال صارخ على ذلك. التداعيات الداخلية لمثل هذه السياسة على حياة شعوب هذه البلدان، وما ينتج عنها من انقسامات وتناقضات داخلية، كانت توظّف لتطويع أنظمتها أو للتمهيد لإطاحتها عبر انقلابات عسكرية مفضوحة أو مموّهة أو لاجتياحها عسكرياً، كما حصل مع العراق بعد 13 عاماً من الحصار الإجرامي.
تراجع القدرة الأميركية على شنّ حروب واسعة النطاق وتحمّل الأعباء الباهظة للاحتلال العسكري، كما أظهرت تجربتا أفغانستان والعراق، دفع بالإدارتين الأميركيتين المتعاقبتين، منذ رئاسة باراك أوباما، إلى إعطاء الأولوية للحرب الاقتصادية على تلك العسكرية.
ومن الواضح أن ترامب ماض بهذه الحرب بجنون وضد الجميع، إذ إنه يلوّح بها حتى ضد حلفائه التاريخيين عند وقوع أوّل خلاف معهم.
ما قامت به إيران تحفيز للقوى الدولية المتناقضة مع إدارة ترامب
ما قامت به إيران عبر إرسالها لناقلات الوقود إلى فنزويلا تحدّ حاسم، «صفعة»، بحسب العديد من التعليقات، لهذه السياسة الخرقاء، وتحفيز للقوى الدولية المتناقضة مع إدارة ترامب على سلوك الدرب نفسه.
لم تتجرّأ الولايات المتحدة على اعتراض هذه الناقلات المتّجهة إلى ما تراه «حديقتها الخلفية». هل ستتجرّأ على اعتراض ناقلات صينية أو روسية تحمل الوقود أو البضائع أو حتى السلاح؟
وزير الخارجية الصيني قال، قبل يومين من كتابة هذا المقال، إن بلاده والولايات المتحدة على عتبة الدخول في حرب باردة جديدة. ليست الصين من يتموضع عسكرياً في جوار الولايات المتحدة، بعد الإعلان عن الاستدارة نحوها، ويمضي في استراتيجية احتواء وتطويق شبيهة بتلك التي طبّقت ضد الاتحاد السوفياتي السابق.
الأمر نفسه ينطبق على روسيا.
هي لم تسع للانتشار عسكرياً على حدود الولايات المتحدة ولا إلى نشر البطاريات المضادة للصواريخ في محيطها. لم تبادر روسيا إلى إلغاء الاتفاقيات الخاصة بالصواريخ المتوسّطة المدى ولا إلى إطلاق سباق التسلّح مجدّداً. لم تتطرّق التقارير الاستراتيجية الصادرة عن وزارتي الدفاع في البلدين ابتداءً إلى «عودة التنافس الاستراتيجي بين القوى العظمى»، بل البنتاغون هو الذي بادر إلى ذلك.
لم يلجأ البلدان إلى سلاح العقوبات والضغوط الاقتصادية والتجارية والمالية، بل الولايات المتحدة هي التي قامت بذلك.
هما اليوم أمام فرصة للمساهمة الحاسمة في شل فاعلية الأداة الاقتصادية لسياسة الحرب الأميركية المستخدمة ضدهما أيضاً، عبر كسر الحصار الذي تفرضه على دول كفنزويلا وإيران وسوريا وكوبا وتشجيع دول أخرى في العالم، متضرّرة من هذه السياسة، على فعل الشيء نفسه.
ستترتب على مثل هذا القرار أكلاف اقتصادية ومالية مرحلية، لكنه سيمكّن الجميع من الصمود في مواجهة الضغوط الأميركية، ويساعد على إفشالها في نهاية المطاف.
ولا شك في أن مسار «فسخ الشراكة» بين الصين والولايات المتحدة، على المستوى الاقتصادي والتجاري، وارتفاع حدّة التوتر بينهما، سيحفّزان الأولى على الأقل على التفكير في هذا الخيار جدّياً. المؤكّد إلى الآن هو أن أول المعنيّين، أي دول الجنوب المكتوية بنيران الضغوط الأميركية، كإيران وفنزويلا، قد حسمت خياراتها.
منع استعادة السيطرة الأميركية
ما لم يعلنه أوباما عند جهره بـ»الاستدارة نحو آسيا» هو أن أولوية أخرى كانت على جدول أعمال إدارته وازدادت أهمّيتها مع إدارة ترامب، وهي استعادة السيطرة على أميركا الوسطى واللاتينية، ومنع «التسلّل الصيني والروسي» إليهما.
حتى مسارعته إلى تطبيع العلاقات مع كوبا كانت جزءاً من هذه الاستراتيجية، وضمن توجّه يفترض أن «انفتاحاً» أميركياً عليها سيسرّع عمليّة التحوّل الاقتصادي والسياسي، ما يفضي إلى استتباعها مجدداً.
فرضية مشابهة كانت بين الاعتبارات التي حكمت قراره بالتوصّل إلى اتفاق مع إيران بشأن برنامجها النووي. لكن أوباما، «الحمائمي» مع كوبا، كان «صقراً» حيال فنزويلا، وضلعت استخباراته المركزية في الانقلاب الذي أطاح رئيسة البرازيل ديلما روسيف.
هجوم استعادة السيطرة الأميركية اشتدّ مع إدارة ترامب، ونجح في إسقاط الحكومتين الوطنيتين في الإكوادور وبوليفيا، وهو يركّز الآن على فنزويلا، تمهيداً للانقضاض على نيكاراغوا وكوبا، كما جهر أقطاب هذه الإدارة، كبومبيو ونيغروبونتي، في أكثر من مناسبة، في السنتين الماضيتين.
الحؤول دون نجاح هذا الهجوم هو في مصلحة جميع أعداء الولايات المتحدة وخصومها عبر العالم، الذين سيستفيدون من صمود أنظمة مناهضة لها في جوارها وشركاء اقتصاديين واستراتيجيين لهم.
نقطة أخرى ينبغي الالتفات إليها، وهي أن «الانتصارات» الأميركية، في البلدان التي أسقطت حكوماتها الوطنية، هشّة.
فهذا بولسنارو في البرازيل يعاني من انخفاض حادّ في شعبيته ويواجه احتجاجات مرشّحة للتعاظم، ناجمة عن قراراته الحمقاء حيال جائحة «كورونا» التي حوّلت البرازيل إلى بؤرة للوباء، وسياساته الاقتصادية والاجتماعية المعادية للطبقات الشعبية والعنصرية.
دعم المعارضة البرازيلية وبقيّة المعارضات في بلدان أميركا اللاتينية، كحركة «الفارك» في كولومبيا مثلاً، ضد الأنظمة العميلة لواشنطن قد يساعدها على إضعافها، وربما إسقاطها في مرحلة لاحقة. «التنافس الاستراتيجي» الذي بادرت إليه الولايات المتحدة لن يبقى محصوراً في جوار روسيا والصين أو إيران، بل هو يتصاعد ويمتد. وناقلات الوقود الإيرانية التي وصلت إلى بحر الكاريبي ليست سوى الإرهاصات الأولى لتطوّرات أكبر وأخطر في الأشهر والسنوات المقبلة.
المصدر: جريدة الأخبار