ثم أعلن النبي (صلى الله عليه و آله) دعوته حينما نزلت هذه الآية:
" يَآ أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ " (المدّثِّر/1-3)
ابتدأ بعشيرته حيث نزلت عليه آية اخرى تقول:
" وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَقْرَبِينَ "(الشعراء/0214).
فجاء النبيُّ (صلى الله عليه و آله) حتى وقف على الصفا فنادى: " يا صباحاه. فاجتمعت إليه قريش فقالوا: مالك ؟ قال: أرأيتكم إن أخبرتُكم أنَّ العدوَّ مُصبحكم أو مُمسيكم، ما كنتم تصدقوني ؟
قالوا: بلى.
قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ".
فقام أبو لهب - أحد أعمام النبيّ - وقال: تبّاً لك، ألهذا دَعوتَنا !.
وخطب فيهم مرةً أخرى وقال:
أيها الناس !. إن الرائد لايكذب أهله. ولو كنت كاذباً لَمَا كَذَبتكم. والله الذي لا إله إلاّ هو، إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة ؟ والله لَتموتون كما تنامون. ولَتُبعثون كما تستيقظون ولَتُحاسبون كما تعملون ؛ ولَتُجزون بالإحسان إحساناً، وبالسوء سوءاً. وإنها الجنة أبداً، والنار أبداً. وإنكم أول من أنذرتم ".
ولكن لم تكن تلبية القوم إلاّ مثل تلبية أبي لهب. فقد أعرضوا عنه، واستهزأوا به، وسخروا بدعوته. أما هو فقد ظلَّ يواصل دعوته بشتى الأساليب، حتى اشتهر خبرها في مكة وما حولها. وبلغت دعوته بعض النفوس النيِّرة الخيِّرة التي كانت تريد الحق والخير، فآمنت بها، واتَّبعتها. بيد أن أكثرية التابعين لها كانوا من الطبقة الفقيرة التي لم تكن تملك لنفسها نفعاً ولاضراً.
أما سادة قريش وأشرافها.. أما المستغلون المرابون.. أما الذين كانت مصالحهم ترتبط بالأصنام والأزلام. أما ذوو العقول المتحجرة، والنفوس المتصلبة.. أما هؤلاء فقد اعتبروا هذه الدعوة شرّاً يجب أن يقاوَم وأن يحاربّ بكل وسيلة.
ولذلك فهؤلاء لم يمتنعوا عن قبول الدعوة فقط، بل أخذوا يسلكون معها مسلكاً معادياً، وساروا في جبهة معاكسة تماماً.. فكل من أسلمَ قابلوه بالكبت والإضطهاد، وحاولوا ردَّه إلى دينهم الخرافي السخيف. فكم من رجل منشرح الصدر، ومنوَّر القلب اعترف بالنبي، فتعرّض للتعذيب والتنكيل من جانب قريش ؟ وكم من عبد أو أمة آمن بالرسالة فَهُدِرَ دَمُه ومات فداء إيمانه ! فهذا عمار قد عذَّبوه ونكَّلوا به. وهذا ياسر أبوه، وهذه سُميّة أمّه قد قتلوهما قتلاً !.
ولم يكن نصيب النبي (صلى الله عليه و آله) من هذا التعذيب والأذى قليلاً. فإنه كان كلما سمع أنَّه عُذِّب أو أوذيَ أحدٌ في سبيل دعوته تألَّم وتأثَّر، ولربما فاضت عيناه بالدموع.. وبالإضافة الى ذلك فقد كانت قريش تتعرض للنبي بالذات، إذ كان أبو لهب يرمي النبيّ بالحجارة، وكانت زوجته تُلقي في طريق الرسول الأشواك. وكان أبو جهل يحاول إثارة غضبه بإلقاء الغرث على رأسه وهو في الصلاة، أو يرمي القذر في طعامه وهو يأكل ؟
وشجَّ أحد الكفَّار رأسه الشريف بالقوس حتى جرت دماؤه على وجهه الكريم !. وكان بعض آخر منهم يلطِّخون داره بالأقذار، وقد يلقون بها في فناء داره..
أما السخرية والاستهزاء والتقريع، فقد كانت تمتلئ بها افواه الكفاّر. ويصبُّونها على النبيَ كلَّ حين !.
وكان النبيّ (صلى الله عليه و آله) يقابل كلّ ذلك بصبر حكيم، وحلم قائد. وأناة نبيّ.. فإذا جاءت إليه طائفة من الكفّار استقبلهم بكل طلاقة، ودعاهم إلى الدِّين بأحسن طريق. فإذا لبّوا دعوته يكون ذلك خيرٌ، وإلاّ فانه كان يطلب منهم أن يأتوا بمثل ما أتى به من القرآن.. ثم يتلو عليهم:
" قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً"(الاسراء/88).
ولطالما كانوا يسخرون منه ويستهزئون بدعوته، فكان يعظهم ويدعو الله لهم بالهداية دون ان يغضب أو يثور.
وكان في بعض الأحيان يتجوَّل في العشائر والمجامع، ويدعو الناس إلى ربهم. بيد أن كفار قريش كانوا يعرقلون طريق دعوته بأمرين:
الأول: أنهم كانوا يحذرون الناس من ان يتأثروا بدعوته قائلين لهم: إنَّ الرجل منّا، وهو ساحر ومجنون أو كذّاب. حتى أن الناس كانوا يضعون القطن في آذانهم لكي لايسمعوا قول النبي(صلى الله عليه و آله).
الثاني: أنه كان يسير خلفه رجل منهم ويصيح إنه كذاب فلا يُسمع قولُه، ولا تُلَبَّى دعوتُه.
وعجز كفارُ قريش عن أن يمنعوا سير الدعوة الحثيث واشتهارها بهذه المعارضات. ففكّروا في انتهاج مسلك آخر في منع الناس عن الإسلام، فجاؤوا إلى النبيِّ (صلى الله عليه و آله) وقالوا له: يا محمد شتمت الآلهة، وسفَّهت الأحلام، وفرَّقت الجماعة. فإن طلبت مالاً أعطيناك، أو الشرف سوَّدناك، أو كان بك علة داويناك.
فقال (صلى الله عليه و آله): " ليس شيء من ذلك، بعثني الله إليكم رسولاً، وأنزل كتاباً فإن قبلتم ما جئت به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه أصبر حتى يحكم الله بيننا ".
وفكروا هذه المرة بأن يستأصلوا الشجرة الطيبة من أصلها وأن يغتالوا النبيَّ (صلى الله عليه و آله) نفسه، بيد أنَّه كان يومئذ يأوي إلى ركن شديد، وسندٍ قويّ، لم يقدر الكفار أن يأتوا عليه، وهو عمُّه وناصره أبو طالب سيد قريش وشيخ بني هاشم. فحاولوا أوّل الأمر إغراء أبي طالب فقالوا له: إننا نعطيك ولداً وسيماً من أبنائنا ونأخذ محمداً ونقتله. فقال: ما انصفتموني. آخُذ ولدكم فأُطعمه وأسقيه، وتأخذون ولدي فتقتلونه. فقالوا له: إنَّ ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفَّه أحلامنا، وضلل أباءنا. فإما أن تكفه عنّا، وإمّا أن تخلِّي بيننا وبينه فنكفيكه.
لكن أبا طالب الذي لم يشك في صدق مقالة ابن أخيه والرسول المبعوث إليه، ردّهم ولم يقبل أيَّ واحد من اقتراحاتهم؛ وخاطب النبيَّ (صلى الله عليه و آله) قائلا: أُدع إلى ربّك. فإني لن أتخلَّى عنك أبداً..