وأحسنت تربية من أنجبت وأخلصت النية للبيت الذي صارت إليه فأضافت إلى المجد الأكمل مجدها المؤثل. واستكملت الفضائل بالصبر والتضحية بإيمان راسخ فكان لها الشرف الباذخ حتى انتهى بها المطاف إلى مثواها الأخير في بقيع الغرقد ولم ينته المطاف بآثارها الجليلة الخالدة وذكراها العطرة وشعلتها القدسية الوقادة مدى الأجيال والعصور حتى النهاية فهي في طليعة اللواتي يصدق عليهن قول الشاعر:
مـــاتـت وما مـــاتت مــــكارمهــا السنية
إن الذي يتبادر إلى الذهن عند ذكر هذا الاسم أو الكنية هو تلك الشخصية الكريمة والذات الطاهرة. والمثال العالي للمرأة فخر الشخصيات النسوية الجليلة القدر السيدة فاطمة بنت حزام الكلابية العامرية (أم البنين) عليها السلام.
رعايتها لسبطيّ النبي (ص)
وقامت السيدة أم البنين برعاية سبطي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وريحانتيه وسيدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين (عليهما السلام)، وقد وجدا عندها من العطف والحنان ما عوّضهما من الخسارة الأليمة التي مُنيا بها بفقد أمّها سيدة نساء العالمين فقد توفّيت، وعمرها كعمر الزهور فقد ترك فقدها اللوعة والحزن في نفسيهما.
لقد كانت السيدة أم البنين تكنّ في نفسها من المودّة والحبّ للحسن والحسين (عليهما السلام) ما لا تكّنه لأولادها اللذين كانوا ملء العين في كمالهم وآدابهم.
لقد قدّمت أم البنين أبناء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، على أبنائها في الخدمة والرعاية، ولم يعرف التاريخ أن ضرّة تخلص لأبناء ضرّتها وتقدّمهم على أبنائها سوى هذه السيدة الزكية، فقد كانت ترى ذلك واجباً دينياً لأن الله أمر بمودّتهما في كتابه الكريم، وهما وديعة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وريحانتاه، وقد عرفت أم البنين ذلك فوفت بحقّهما وقامت بخدمتهما خير قيام.
دورها في الكوفة
وأم البنين مع الإمام (عليه السلام) في الكوفة'>هل كانت أم البنين مع الإمام (عليه السلام) في الكوفة إلى حين استشهاده؟
لا نعرف ذلك..
وربما يقال: إنها لم تكن مع الإمام (عليه السلام) وإلا لحدثنا التاريخ به، فعدم الوجدان - في هكذا موارد - دليل على عدم الوجود.
فإذا لم تكن معه (عليه السلام) فما هو السر في ذلك، ولماذا لم يحضرها الإمام (عليه السلام) معه؟ مع أنه قد اصطحب بعض أولادها كما ذكره التاريخ، فهل بقيت لتبقى دار الإمام - بحضورها - مدرسة لتعليم البنات وتربية النساء..؟
لاشك أن بيت الإمام (عليه السلام) كان بحضورها كذلك.
إن التاريخ المدون لم يذكر إلا جزءاً صغيراً جداً من أحوال أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله) رجالاً ونساءً.
فلم يرد الكثير عن اللاتي كن في أطرافه (صلى الله عليه وآله): في حجه ومرته، وحربه وسلمه، وسفره وحضره، كما لم يذكر التاريخ التفصيل عن حياتهن وأعمالهن وأدوارهن.
ومن الواضح أنه لم يذكر دور أم البنين (عليها السلام) وعملها بعد قصة كربلاء بالشكل الكامل، نعم إنما ذُكر بكاؤها وندبتها على أوجز وجه.
بل الأمر يتعداها إلى مريم الطاهرة (عليها السلام)، وخديجة الصديقة (عليها السلام).
ومع كل ذلك فقد بقي الشيء القليل القليل من أحوالهن بما هو مذكور في بعض التواريخ أو الروايات، وفي هذا القليل: الكثير الكثير لمن أراد أن يتذكر أو يخشى.
ومما يستفاد من ذلك: إن الإسلام لم يخص عمل المرأة بالدار، كما يظهر مما ورد في قصة الزهراء (سلام الله عليها) وخطبتها في المسجد واحتجاجها، وإن كان قد ورد بالنسبة إليها (عليها السلام) القليل أيضاً.
دورها وأولادها في كربلاء
وفي قصة كربلاء وقضية عاشوراء التاريخية قدمت أم البنين (عليها السلام) إلى الله عزَّ وجل أولادها الأربع، حيث استشهدوا بين يدي أبي عبد الله الحسين (عليه السلام).
أما هي بنفسها (سلام الله عليها) فلماذا لم تأت إلى كربلاء؟
لم يذكر التاريخ السبب في ذلك - حسب التتبع الناقص -، فلعلها كانت مريضة - كما حكي عن فاطمة الصغرى - أو مشتغلة برعاية أولاد بنيها، أو غير ذلك مما علمه عند الله سبحانه.
رزقت أم البنين من الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أربعة أولاد كلهم استشهدوا في معركة الطف الخالدة بكربلاء، وقد أظهرت هذه المعركة بشكل واضح جلي إخلاص آل البيت الكريم وتضحيتهم في سبيل إعلاء كلمة الإسلام والحق، وتمسكهم في الدفاع عن المثل العليا والكرامة ضد الجبروت والطغيان. فضربوا بذلك مثلاً يقتدى به في التضحية ونكران الذات، وكان أبرز شجعان هذه المعركة أولادها الأربعة وهم: العباس وعبد الله وجعفر وعثمان، وأمهم أم البنين فاطمة بنت حزام، ومحمد الأصغر المكنى بأبي بكر وعبد الله الشهيدان مع أخيهما الحسين (عليه السلام).
لقد كان هؤلاء الأبطال المثل الأعلى للناس آنذاك في النهوض والاستبسال والتحرر من ذل الخنوع والكسل والجهل. فمن يتبصر في سيرهم يقف إجلالاً لهم وإعظاماً لمقامهم الشامخ، ويصح فيهم قول الشاعر:
مــــن تــــلقَ فـــيهم تقل لاقيت سيدهم مثل النــــجوم التي يسري بها الساري
مكانتها عند أهل البيت
ولهذه السيدة الزكية مكانة متميّزة عند أهل البيت (عليهم السلام)، فقد أكبروا إخلاصها وولاءها للإمام الحسين (عليه السلام)، وأكبروا تضحيات أبنائها المكرمين في سبيل سيد الشهداء (عليه السلام)، يقول الشهيد الأول وهو من كبار فقهاء الإمامية:
كانت أم البنين من النساء الفاضلات، العارفات بحقّ أهل البيت (عليهم السلام)، مخلصة في ولائهم، ممحضة في مودّتهم، ولها عندهم الجاه الوجيه، والمحلّ الرفيع، وقد زارتها زينب الكبرى بعد وصولها المدينة تعزّيها بأولادها الأربعة، كما كانت تعزّيها أيام العيد..).
إن زيارة حفيدة الرسول (صلى الله عليه وآله) وشريكة الإمام الحسين (عليه السلام) في نهضته زينب الكبرى (عليها السلام) لأم البنين، ومواساتها لها بمصابها الأليم بفقد السادة الطيبين من أبنائها، مما يدل على أهميّة أم البنين وسموّ مكانتها عند أهل البيت (عليهم السلام).
وبلغ من عظمها ومعرفتها وتبصرها بمقام أهل البيت أنها لما دخلت على أمير المؤمنين وكان الحسنان مريضين أخذت تلاطف القول معهما وتلقي إليهما من طيب الكلام ما يأخذ بمجامع القلوب وما برحت على ذلك تحسن السيرة معهما وتخضع لهما كالأم الحنون.
ولا بدع في ذلك فإنها ضجيعة شخص الإيمان قد استضاءت بأنواره وربت في روضة أزهاره واستفادت من معارفه وتأدبت بآدابه وتخلقت بأخلاقه.
وما لاشك فيه أن أم البنين إذا كانت تحسن السيرة مع الحسنين (عليهما السلام) وتحنو عليهما، فهذا العمل كذلك تفعله مع زينب وأختها أم كلثوم، وهذا أمر لا ريب فيه أنها (رضوان الله عليها) تنظر إلى أولاد أمير المؤمنين (عليه السلام) بعين الكرامة والمحبة لهم ولأبيهم (عليهم السلام)، ومن كانت هذه سيرته يكون بطبيعة الحال محبوباً معظماً، وإذا كانت أم البنين عند أهل البيت (عليهم السلام) بهذه المنزلة السامية والمرتبة العالية، إذاً فلا غرابة إذا عظمها محبو أهل البيت، فإن لها عندهم المنزلة العظيمة في نفوسهم والمحبة الشديدة في قلوبهم من الرجال والنساء ويذكرونها بالإكبار والتبجيل، وبلغ من تعظيمهم لها أنهم ينذرون لها بثواب الصوم والصلاة وتلاوة القرآن، كما كانوا يفعلون ذلك في تعظيم المعصومين (عليهم السلام) وتكون نية الصوم والصلاة وتلاوة القرآن تقرباً إلى الله (تعالى) ويهبون ثواب ذلك كله للمنذور له وصيغة النذر (لله علي نذر يلزمني اداؤه وقضائه لأن مكنني الله من الشيء الفلاني (من فعل خير وشفاء من مرض ونحو ذلك) أصوم ثلاثة أيام (و أقل أو أكثر) قربة إلى الله واهب الثواب إلى فلان) وكذلك في الصلاة وتلاوة القرآن وقد اشتهر بين النساء أن يوم السبت هو اليوم الخاص الذي يصام فيه ويوهب الثواب لأم البنين (رضوان الله عليها).
وفاتها
توفيت السيدة أم البنين عليها السلام في 13 جمادى الآخر ودفنت في أرض البقيع.
إن مؤامرات الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، تنال الكثير من الأشياء والأشخاص.
ومن هنا لا نعلم شيئاً عن سبب وفاة السيدة أم البنين (عليها السلام)، مع العلم بأنها كانت تفضح بني أمية الذين قتلوا الإمام الحسين (عليه السلام).
وقد أسس معاوية جند العسل وقتل به مالك الأشتر (رضوان الله عليه) وكثيراً من الأبرياء بالسم. حتى صار عادة فيهم وفي العباسيين والعثمانيين من بعدهم.
فقد ورد في التاريخ أن هارون قتل السيد الإدريسي به، وهكذا قتل المأمون السيدة فاطمة المعصومة (سلام الله عليها) - كما رأينا في أحد التواريخ.
زيارة قبرها
أم البنين (سلام الله عليها)'>زيارة قبر أم البنين (سلام الله عليها) لها أجر وثواب عظيم فإن زيارة قبور المؤمنين والمؤمنات لها ثواب كثير، وقد ورد التأكيد على ذلك في الروايات، فكيف بزيارة مثل قبرها.
وهي (عليها السلام) في المدينة المنورة في البقيع، ويلزم على المسلمين بناء قبور أئمة البقيع وقبور هؤلاء الصالحين والصالحات بأحسن ما يمكن ويناسب مقامهم العالي.
ومن الواضح أن تراب قبرها الطاهر له الأثر الخاص، طبعاً لا كأثر تراب قبور الأئمة المعصومين والأنبياء (عليهم الصلاة والسلام)، فإن مجرد كونه تراباً لمثل قبرها له حيثية رفيعة كما هو واضح.
ولا يبعد بقاء جسدها (عليها السلام) في القبر.. وإن لم أجد لذلك نصاً، فإنه يعرف بالأشباه والنظائر:
فقد بقي جسد (بي بي حياة) المجاهدة مع الفتح الإسلامي في (يزد) إلى هذا اليوم.
وجسد حذيفة إلى زماننا في (بغداد) وذلك في قصة حدثت لقبره.
وغير ذلك مما هو كثير وكثير.
قال سبحانه عن السامري: (فقبضت قبضة من أثر الرسول) مع أنه كان تراب حافر فرس جبرئيل عند بحر مصر في قصة مرور موسى (عليه السلام).
فإذا كان ذلك التراب له هذا الأثر العظيم حتى جعل (عجلا جسداً له خوار) فمن الواضح أثر تراب قبرها (عليها السلام) (فإن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد).
إحياء الذكرى
قال الإمام الصادق (ع): (أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا).
إن إحياء ذكرى أم البنين (عليها السلام) وذكرى المعصومين (عليهم السلام) وذويهم ومن إليهم، كالعلماء والصالحين والصالحات، من أهم ما يلزم، وذلك لأجل تنظيم الحياة تنظيماً صحيحاً يوجب سعادة الإنسان في دنياه وآخرته.
فمثلاً في ذكرى أم البنين (سلام الله عليها) تتذكر النساء هذه المرأة الطاهرة، العفيفة الشريفة، الحافظة لنفسها، الذاكرة لله واليوم الآخر، المديرة لبيتها، المراعية لحقوق زوجها، المربية لأولاد صالحين و...
فتتعلم منها وتقتدي بها، فلا يكوننَّ مبعثرات ولا ساقطات ولا مهملات في الحياة الزوجية أو في تربية الأولاد.
وبذلك تسعد المرأة التي تلقت الدروس من مدرسة أم البنين (عليها السلام) واتبعتها، ويسعد بها غيرها من أولادها وذويها، فيكون الإحسان عائداً لنفسها قبل غيرها، قال سبحانه: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها).
ولاشك أن ذكرى أم البنين (عليها السلام) وذكرى العظماء رجالاً أو نساء، موجب للأجر والثواب فقد ورد: (من ورخ مؤمنا فقد أحياه)، فكما أن إحياء الإنسان يوجب الخيرات، كذلك إحياء ذكراه، قال تعالى: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب).
بالإضافة إلى أن ذكرى الأخيار والخيرات تملأ النفس الإنساني بالصحيح النافع والمنهج المسعد، والعكس بالعكس، وعندئذ تعكس النفس التي تلقت الذكرى شيئاً من تلك الأسوة.. إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
وهذا تكليف على كل إنسان بقدر وسعه، قال سبحانه: (لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها).
وقال الشاعر:
وكل إناء بالذي فيه ينضح
وقد ذكر العلماء بأن حال النفس حال المعدة، فتملأ تارة بالطعام الصحيح وتارة بالفاسد، وملؤها بالصحيح يصلح لها الدين والدنيا، وملؤها بالفاسد يفسد عليها الدين والدنيا.. في الفرد والمجتمع.
فالذهن يجب أن يملأ بالعقيدة، إما الصحيحة وإما الفاسدة، فإذا لم يمتلأ بالعقيدة الصحيحة امتلأ بالباطلة، وهكذا حال العادة صحيحة كانت أو باطلة.
وعلى أي حال فسيرة العظيمات تربي العظيمات، بل وحتى العظماء في الأمور المشتركة كالعبادة والزهد والتقوى، فسيرتهن تربية للرجال والنساء.. والبنين والبنات.. للبشرية جمعاء.
وقال الشاعر الشيخ أحمد الدجيلي:
أم البـــــنـــــين ومـا اسمى مزاياك خـــــلدت بــالصبر والإيمان ذكراك
ابناؤك الغر في يوم الطفوف قضوا وضمخوا فـــي ثراها بالدم الزاكي
لــــــما اتــــى بشر ينعاهم ويندبهم إليك لم تـــــنفجر بــــالدمع عيـناك
وقلت قولــــتك العظمى التي خلدت إلى القيامة باق عــــطرها الـزاكي
أفدي بروحــي وأبنائي الحسين إذا عاش الحسين قـــرير العين مولاك