الحمد لله في آناء الليل واطراف النهار، وازكى الصلاة والسلام على النبي المختار، وعلى آله الهداة الاخيار.
اخوتنا الافاضل... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وتحياته، واهلاً بكم في هذا اللقاء الذي يسعدنا ان نتحدث فيه حول خلق كريم، وامر الهي عظيم، الا وهو «بر الوالدين» فان الوالدين قد حظيا في كتاب الله تعالى بتوصيات الهية عديدة، منها قوله جل وعلا: «وقضى ربك الا تعبدوا الا اياه وبالوالدين احساناً، اما يبلغن عندك الكبر احدهما او كلاهما فلا تقل لهما اف ولا تنهرهما، وقل لهما قولاً كريماً / واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً».
قال الامام جعفر الصادق عليه السلام في ظل قوله تعالى «وبالوالدين احساناً»: «الاحسان ان تحسن صحبتهما، وان لا تكلفهما ان يسألاك شيئاً مما يحتاجان اليه وان كانا مستغنيين»... ثم قال عليه السلام: ان اضجراك فلا تقل لهما اف ولا تنهرهما ان ضرباك... ان ضرباك فقل لهما: غفر الله لكما، فذلك منك قول كريم.. «واخفض لهما جناح الذل من الرحمة» قال: «لا تملأ عينيك من النظر اليهما الا برحمة ورقة، ولا ترفع صوتك فوق اصواتهما، ولا يدك فوق ايديهما، ولا تقدم قدامهما».
وفي سورة لقمان، نقرأ قوله تعالى: «ووصينا الانسان بوالديه حملته امه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك الي المصير».
قال الامام الرضا عليه السلام: «ان الله عزوجل ... امر بالشكر له وللوالدين فمن لم يشكر والديه لم يشكر الله».
وفي اكرام البار بوالديه، ورد عن الامام الصادق عليه السلام، ان رسول الله صلى الله عليه وآله أتته أخت له من الرضاعة، فلما نظر اليها سر بها، وبسط ملحفته لها فأجلسها عليها، ثم اقبل يحدثها ويضحك في وجهها ثم قامت فذهبت وجاء اخوها فلم يصنع رسول الله به ما صنع بها، فقيل له في ذلك، فقال صلى الله عليه وآله: «لأنها كانت أبر بوالديها منه».
ولذا كان الامام السجاد علي بن الحسين عليه السلام يدعو قائلاً: «اللهم اجعلني اهابهما هيبة السلطان العسوف وابرهما بر الام الرؤوف واجعل طاعتي لوالدي وبري بهما اقر لعيني من رقدة الوسنان، واثلج لصدري من شربة الظمان، حتى اوثر على هواي هواهما، واقدم على رضاي رضاهما».
وفي رسالة الحقوق... كتب الامام زين العابدين علي بن الحسين صلوات الله عليهما: «اما حق ابيك، فان تعلم انه اصلك وانه لولاه لم تكن فمهما رايت في نفسك مما يعجبك فاعلم ان اباك اصل النعمة عليك فيه، فاحمد الله واشكره على قدر ذلك».
اذن ايها الاخوة الاعزة ما احرانا بالحذر من الوقوع في عقوق الوالدين وفيما نهى الله عزوجل في شأنهما حتى قال الامام الصادق عليه السلام: أدنى العقوق: «اف، ولو علم الله شيئاً اهون منه لنهى عنه». وقال عليه السلام: «عقوق الوالدين من الكبائر، لان الله عزوجل جعل العاق عصياً شقياً»، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله: يقال للعاق: «اعمل ما شئت، فاني لا اغفر لك».
وورد - اخوتنا الاكارم- ان عقوق الوالدين من الذنوب التي تظلم الهواء، وانه يعقب القلة ويودي الى الذلة ويأتي بالفقر المعنوي، ويحرم المرء من التوفيق لطاعة الله عزوجل... والى ما ذلك من الآثار الخطيرة. ولعل احدنا يتساءل: ما هي صور العقوق؟
والجواب على ذلك انها عديدة، منها: ان يحد المرء نظره الى والديه، او ينظر اليهما نظر ماقت كاره، او ان يحزنها ويوذيهما بقول او فعل اولا يوقرهما ولا يتأدب معهما في كلام او تصرف.
فاذا اراد برهما فعليه ان يشكرهما على كل حال. ويوقرهما وان يطيعهما فيما يامرانه وينهيانه عنه، في غير معصية الله تعالى.
بل ورد وجوب برهما في حياتهما وبعد وفاتهما... كيف؟ هذا ما نتبينه بعد هذه الوقفة القصيرة.
جاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله هل بقي من بر ابوي شي ابرهما به بعد موتهما؟ قال: «نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وانفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل الا بهما، واكرام صديقهما». وعن الامام الصادق عليه السلام قال: «ما يمنع الرجل منكم ان يبر والديه، حيين او ميتين: يصلي عنهما ويتصدق عنهما، ويحج عنهما، ويصوم عنهما فيكون الذي صنع لهما وله مثل ذلك، فيزيده الله عزوجل ببره وصلته خيراً كثيراً».
وعن الامام الباقر عليه السلام: «ان العبد ليكون باراً بوالديه في حياتهما ثم يموتان فلا يقضي عنهما دينهما ولا يستغفر لهما فيكتبه الله عز وجل عاقاً وانه ليكون عاقاً لهما في حياتهما، غير بار بهما، فاذا ماتا قضى دينهما، واستغفر لهما، فيكتبه الله عزوجل باراً».
ويصل بر الوالدين درجة ايها الاخوة الاحبة ان الله تعالى يامر باكرامهما ولو لم يكونا موحدين ولا بارين لقول الامام الباقر عليه السلام: «ثلاث ولم يجعل الله عزوجل لاحد فيهن رخصة: أداء الامانة الى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبر الوالدين: برين كانا او فاجرين». وقال رجل للامام الصادق عليه السلام: «ان لي ابوين مخالفين، فقال عليه السلام: برهما كما تبر المسلمين ممن يتولانا».
وروي عن الامام الرضا عليه السلام قوله: «بر الوالدين واجب، وان كانا مشركين، ولا طاعة لهما في معصية الخالق».
وعن معمر بن خلاد قال: قلت لابي الحسن الرضا عليه السلام: ادعو لوالدي اذا كانا لا يعرفان الحق؟ فقال: أدع لهما، وتصدق عنهما، وان كانا حيين لا يعرفان الحق فدارهما، فان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: «ان الله بعثني بالرحمة، لا بالعقوق».
الراوي: يروي زكريا بن ابراهيم عن نفسه هذه الواقعة فيقول: كنت نصرانياً فاسلمت وحججت فدخلت على ابن عبد الله الصادق عليه السلام فقلت:
زكريا: اني كنت على النصرانية واني اسلمت.
الراوي: فسأله الامام الصادق عليه السلام: واي شيء رأيت في الاسلام؟
زكريا: قول الله عز وجل: «ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا، وانك لتهدي الى صراط مستقيم» (الشوري:٥۲).
الراوي: فقال له الامام الصادق عليه السلام: لقد هداك الله. ثم قال: اللهم اهده، اللهم اهده، اللهم اهده. سل عما شئت.
زكريا: يا ابن رسول الله ان ابي وامي على النصرانية، واهل بيتي، وامي مكفوفة البصر، فاكون معهم وآكل في آنيتهم؟
الراوي: فسأله الامام عليه السلام: يأكلون لحم الخنزير؟
زكريا: لا، ولا يمسونه.
الراوي: فقال عليه السلام: لاباس، فانظر امك فبرها، فاذا ماتت فلا تكلها الى غيرك، كن انت الذي تقوم بشأنها، ولا تخبرن احداً انك اتيتني حتى تاتيني بـ (منى) ان شاء الله.
الراوي: فأتيته بـ (منى) والناس حوله كأنه معلم صبيان، هذا يسأله وهذا يسأله. فلما قدمت الكوفة الطفت لامي، وكنت اطعمها وافلي ثوبها ورأسها، واخدمها، فقالت لي:
الام: يا بني، يا زكريا، ما كنت تصنع بي هذا وانت على ديني دين النصرانية، فما الذي ارى منك منذ هاجرت فدخلت في الحنيفية؟!
زكريا: يا اماه، رجل من ولد نبينا امرني بهذا.
الام: هذا الرجل هو نبي؟
زكريا: لا ولكنه ابن نبي.
الام: يا بني هذا نبي، ان هذه وصايا الانبياء!
زكريا: يا اماه، انه ليس يكون بعد نبينا نبي، ولكنه ابنه.
الام: يا بني دينك هذا خير دين، فاعرضه علي.
زكريا: فعرض عليها الاسلام فدخلت فيه، وعلمها الصلاة فصلت الظهر والعصر والمغرب والعشاء الاخرة، ثم عرض لها عارض بالليل فقالت:
الام (وهي في حالة احتضار): يا بني يا زكريا...
زكريا: نعم يا اماه، لبيك يا اماه.
الام: اعد علي ما علمتني.
زكريا: فاعاده عليها، فاقرت بحقائق الاسلام ثم ماتت رحمها الله. فلما اصبح كان المسلمون معه فتولى امرها، وكان هو الذي صلى عليها و انزلها في قبرها.