الحمد لله بجميع محامده كلها، على جميع نعمه كلها، وافضل صلواته وازكاها على حبيبه المصطفى الاكرم وعلى آله اولى الحجى والكرم.
اخوتنا المستمعين الاكارم .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته واهلاً بكم في لقاء اخر، وحديث اخر، وقد اخترنا ان يكون موضوعنا هذه المرة دائراً حول الرفق وهو موضوع عملي حياتي، اذ كل يواجهه في علاقاته مع اسرته واصدقائه وعامة الناس في تعاملهم معه وتعامله معهم.
ويعني الرفق ان تكن لنا ملائمة مع الناس وحسن صحبة وحسن كلام وعدم تشدد معهم.. وقد يحتاج الرفق ـ ايها الاخوة الافاضل ـ الى شيء من الصبر والتحمل وغض النظر عن بعض الاساءات وتقبل المعذرة من المخطئين واستمالة للاخوان بالعتب الرقيق.. مشفوع بالموعظة والتذكير، وخال من الغلظة والتجريح.
ويكفي الرفق شرفاً ـ ايها الاخوة ـ ان يكون خلقاً من اخلاق الله جل وعلا مع عباده يقول الامام الباقر عليه السلام: "ان الله عز وجل رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف". ثم الرفق ـ اخوتنا الاعزاء ـ من اظهر اخلاق النبي محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله).. قال انس بن مالك: كنت امشي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وعليه برد غليظ الحاشية فادركه اعرابي فجذبه من ردائه جذبة شديدة، حتى نظرت الى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وآله قد اثرت بها الحاشية من شدة جذبته، ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك.. فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله في وجهه ثم امر له بعطاء.
وبعد فتح مكة.. يحدث فضالة نفسه قائلاً: لادخلن المسجد ولاطوفن بالبيت فاذا وقعت عيناي على محمد ضربته بسيفي هذا وهو يطوف. ويدخل النبي صلى الله عليه وآله ليطوف، ويدخل فضالة ليقتله فاذا التقيا وجهاً لوجه، قال الحبيب المصطفى: يا فضالة: بم كانت تحدثك نفسك؟
قال فضالة: كانت تحدثني بذكر الله فقال صلى الله عليه وآله: بل كانت تحدثك بقتل محمد بن عبد الله.
قال فضالة يحدث: "فضرب رسول الله بيده على صدري فشعرت ببرد السكينة في قلبي.. فما رفع يده عن صدري الا كان احب الناس الى محمد بن عبد الله".
فكان المسلمون يجلون رسول الله صلى الله عليه وآله لخلقه العظيم.. حتى قال عروة بن مسعود وقد اوفدته قريش في الحديبية: والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه اصحابه ما يعظم اصحاب محمد محمداً.
ذلك ـ ايها الاخوة الاحبة ـ هو الرفق، وقد حظي هذا الخلق الكريم بشرف خاص يبينه لنا رسول الله صلى الله عليه وآله في احاديث شريفة عدة، يقول فيها: "ما من عمل احب الى الله تعالى والى رسوله من الايمان بالله، والرفق بعباده وما من عمل ابغض الى الله تعالى من: الشرك بالله تعالى والعنف على عباده".
ما اصطحب اثنان.. الا كان اعظمهما اجراً عند الله تعالى، واحبهما عند الله تعالى ارفقهما بصاحبه.
نعم وزير الايمان العلم ونعم وزير العلم الحلم، ونعم وزير الحلم الرفق، ونعم وزير الرفق اللين.
الرفق يمن والخرق شؤم.
ما وضع الرفق على شيء الا زانه، ولا وضع الخرق على شيء الا شانه فمن اعطي الرفق اعطي خير الدنيا والاخرة ومن حرمه حرم خير الدنيا والاخرة.
وهنا كلمة للامام محمد الباقر عليه السلام يجدر الوقوف عندها بتأمل اذ يقول: "ان لكل شيء قفلاً وقفل الايمان الرفق".. كيف ايها الاخوة الاعزة؟ يقول الشيخ المجلسي: "اعلا الله مقامه": "ان لكل شيء قفلاً" ـ أي حافظاً له من ورود امر فاسد عليه، او خروج امر صالح منه، "وقفل الايمان الرفق": وهو لين الجانب والرأفة وترك العنف والغلظة في الافعال والاقوال على الخلق في جميع الاحوال.
وفي ثمار الرفق.. يروي النبي المصطفى صلى الله عليه وآله انه قال: "ان في الرفق الزيادة والبركة، ومن يحرم الرفق يحرم الخير".
اجل.. فالرفق فيه زيادة في جميع الخيرات، ومنها الرزق .. كما في الرفق البركة بثبات تلك الخيرات وديمومتها وزيادتها فمن لم يوفق للرفق كان قد حرم خيرات الدنيا والاخرة.
وفي شأن ثمرات الرفق ايضاً قال امير المؤمنين عليه السلام: "الرفق ييسر الصعاب ويسهل شديد الاسباب".
الرفق لقاح الصلاح، وعنوان النجاح، الرفق يؤدي الى السلم.
وعن الامام جعفر الصادق عليه السلام قال: "من كان رفيقاً في امره، نال ما يريد من الناس".
اجل .. فالمرء يريد امرين مهمين من الناس: الاول ان تجري معاملاته وشؤونه المعاشية بيسر وتفاهم وعدالة، وذلك يتأتى بالرفق والطيبة والاخاء مع المنطق السليم والامر الثاني يريد المرء ان تحفظ بين الناس كرامته والرفق يضمن ذلك، فمن كان رفيقاً حسن الكلام والصحبة احترمه الناس واجلوا شخصيته ومن هنا يقول الامام الصادق عليه السلام: "ان شئت ان تكرم فلن وان شئت ان تهان فاخشن".
الراوي: قال احد الفضلاء:
الفاضل: ذهبنا برفقة عريس الى قرية في اطراف احدى المدن وفي الطريق فوجئنا برجل اعترضنا وكانت عليه علامات السذاجة والغباء فقال لنا بلغظة:
العنيف: انا عالم القرية، وينبغي على كل من يطلب يد فتاة من قريتنا ان يدفع لي رسماً مالياً قدره ثلاثون الف دينار.
الفاضل: فاخذت اناقشه في تصرفه هذا لكنه كان يصر على موقفه حتى كان يلوح لنا انه سيحبسنا في قريته ان لم ندفع له المبلغ الذي يريده واخيراً تقدمت له بهذا الاقتراح، وانا اتكلم معه برفق:
أسألك ثلاثة اسئلة ان اجبت على كل واحد منها اعطيتك عشرة الاف دينار ولك سؤال لم تجب عليه اسقطنا عن حقك بعشرة الاف دينار .. ها هل انت موافق؟
العنيف: لا بأس.. اسأل.
الفاضل: لماذا يضع المؤذن يديه على اذنيه اثناء الاذان؟
العنيف: هآ .. لا ادري.
الفاضل: اذن خسرت عشرة الاف دينار الاولى .. والان السؤال الثاني: لماذا يفتح الصياد عيناً ويغمض الاخرى عندما يريد ان يرمي الطائر؟
العنيف: ها.. دعني افكر جيداً .. هآ .. لا اعلم.
الفاضل: اذن خسرت العشرة الاف دينار الثانية، أليس كذلك؟
العنيف: والان.. اطرح عليَّ سؤالك الثالث لعلي اجيبك عليه واحظى بالعشرة الاف دينار الثالثة.
الفاضل: السؤال الثالث في فصل الشتاء ترى الدجاجة في البيت تقف على رجل واحدة، فهل تعرف السبب في ذلك؟
العنيف: هآ.. "مع نفسه" تقف على رجل واحدة هذا صحيح، ولكن لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ .. "ثم قال": لا ادري يا اخي، ومن اين لك هذه الاسئلة الغريبة؟
الفاضل: ايها الرجل العالم انت رجل مفكر، ففتش في ثنايا فكرك لعلك تجد جواباً تحظى بعده بما طلبت منا.
الراوي: وسكت الرجل العنيف بعد ان كان العالم الفاضل يتكلم معه بأدب ورفق وظل سارحاً في خيالاته عله يجد جواباً لتلك الاسئلة التي حيرته.. فيما تحركت قافلة العريس لتخرج من القرية وهو غافل عنهم، وفجأة صحا على نفسه، فوجد ان القوم قد ذهبوا عنه ولم يحصل منهم على شيء.. حينها هرع خلفهم حتى لحق بهم فنادى:
العنيف: وهو يقترب بعد خطوات وهو يلهث: اين ذهبت عني يا شيخ؟
الفاضل: ذهبنا عنك بعد ان عجزت عن الاجابة فلم تستحق شيئاً منا.
العنيف: "بلين" صحيح يا رجل ان كنت قد تركتني ولم ترد ان تعطيني مالأً فلا اقل ان تعطيني اجابات اسئلتك الثلاثة.
الفاضل: اجل معك حق وكل الحق.. اما المؤذن فانه يضع يديه على اذنيه لانه اذا وضعهما على فمه انقطع صوته.
العنيف: احسنت احسنت صحيح "بهدوء" والصياد؟
الفاضل: والصياد يغمض عيناً واحدة عند الرمي لماذا؟ لانه اذا اغمض كلتا عينيه فانه لا يرى الطائر ابداً، فكيف يرميه؟
العنيف: "بصوت معه اعجاب" صحيح صحيح اجل كيف يرميه وهو مغمض عينيه كالاعمى؟ بالله عليك والدجاجة .. لماذا تقف في الشتاء على رجل واحدة؟
الفاضل: لانها اذا رفعت كلتا رجليها فانها..
ستسقط.. ستسقط حتماً يا رجل.
الفاضل: اذن هاك عشرة الاف دينار وانصرف موفقاً.
العنيف: هاتها لتبقى عندنا ذكرى هذا اللقاء السعيد.
الفاضل: وذكرى اجابتك الذكية يا شيخ القرية.