بسم الله، والحمد لله، واشرف الصلوات وازكاها على حبيب الله، المصطفى رسول الله، وعلى اله اولياء الله.
كم يحسن بالعبد ان يجمع الى العبادة وعيا ويقظة وبصيرة، والى النسك والروحانية شجاعة واقداما وجهادا، والى الاعتقاد السليم موقفاً صحيحاً واتباعاً صادقاً لرسول ولاله صلوات الله عليه وعليهم. وهكذا كان اصحاب الامام الحسين سلام الله عليه، لم يجتمعوا عنده صدفة واتفاقاً ابداً حتى اجتمعت لديهم خصال طيثبة شريفة، فمالت ارواحهم الى سيد شباب اهل الجنة ابي عبد الله الحسين، فوجدوا قلوبهم متعلقة به، مسلمة له، كما وجدوا نفوسهم مبذولة بين يديه، لا يرتضون لضمائرهم غير ذلك ولا يحيدون عنه وكان منهم ذلك الشهيد الشهم ابو عمرة، فمن ترى هذا الرجل السعيد؟!
ابو عمرة هو زياد بن عريب بن حنظلة الهمداني، الصائدي. كان ابوه (عُريب) صحابياً ذكره جملة من الرجاليين واصحاب الطبقات، وابو عمرة ابنه هذا له ادراك بعهد النبي (صلى الله عليه وآله)، عُرف بعد نشأته بكونه شجاعاً ناسكاً، مشهوراً بالعبادة والتهجد، كما ذكر ذلك ابن حجر العسقلاني في كتابه (الاصابة.. في تمييز الصحابة).
فيما ذكر ابن نما الحلي في (مثير الاحزان) حضوره الموفق في كربلاء، رواية عن (مهران الكاهلي) حيث قال: شهدت كربلاء، فرأيت رجلاً يقاتل قتالاً شديداً، لا يحمل على قومٍ الا كشفهم، ثم يرجع الى الحسين (عليه السلام) فيقول له:
ابشر ـ هديت الرشد ـ يا ابن احمد
في جنة الفردوس تعلو صُعدا
قال مهران: فسألت من هذا؟!
فقالوا: ابو عمرة الحنظلي الصائدي.
كان ابو عمرة زياد بن عريب ممن دخلوا في ذلك الامتحان الحسيني في جملة الاصحاب بكربلاء، يوم اطلق لهم الامام الحسين العنان عنان الانسحاب من ساحة الطفّ، مُسرحاً اياهم رافعاً عنهم كل تكليف الا النجاة بأنفسهم ليس عليهم من ذمام، وهم قلة قليلة، قائلاً لهم في تعليل ذلك: «فإن القوم إنما يطلبونني، ولو أصابوني لذُهلوا عن طلب غيري».
فابى بنو هاشم أن ينصرفوا، وأبدوا عزة ً وشرفاً ووفاءً ـ واستعداد للتضحية والشهادة، وكذلك الاصحاب أبوا ان يتركوا إمامهم أو يسلموه الى اعدائه، بل اصروا على نصرته ولو كلفهم ذلك ان يذوقوا الموت عشرات المرات، فجزاهم الامام الحسين (عليه السلام) خيراً، وفي ذلك يقول الشاعر:
جاء المسا فدعاهم: قوموا اذهبوا
فالليل ستر جهره إخفات
لا يطلب الاعداء غيري
فاتركوني، ما بكم من بيعتي تبعات
فأجابه الانصار: هذي منة
سبقت لنا، قلت لها المنات
إنا نجاهد دونكم، وتُقطّع
الأعضاء منا فيه والرغبات
ثم الرسول شفيعنا يوم الجزا
ولنا بهذا تُرفع الدرجات
أفنحن يوماً تاركوك وهذه
بك قد أحاطت أذؤب وعداة؟!
لا كان منا اليوم تركك والذي
قد أُحصيت في علمه الذرات
كان زياد بن عريب (ابو عمرة) ممن ابى ان يرجع، او يتراجع، فقد ثبت مع الامام الحسين (عليه السلام) حتى حانت ساعة المواجهة والقتال، فكان رسل القوم سهاماً تتجه نحو عسكر الامام الحسين، اصيب بها الاصحاب، ثم قاموا وهم بين طريح.. وجريح، فاستنهضهم سيد الشهداء الى الشهادة مرة اخرى، فقاموا ليحملوا على اعداء الله حملة واحدة، ويقتتلوا اقتتالاً شديداً، لم ينته ذلك الا بفيض ارواح خمسين شهيداً من الاصحاب الاوفياء.
ثم اخذ اصحاب الحسين (عليه السلام) - وقد بان النقص في عددهم وأصبحوا قلة قليلة ـ يبرزون الواحد منهم والاثنان، يقاتلون فيستشهدون. فقام عبد الله بن عمير الكلبيّ، والجابريان: سيف بن الحارث ومالك بن عبد ، وهما ابنا عمّ ـ وقام الغفاريان: عبد الله عبد الرحمان ابنا عروة ـ وهما اخوان ـ، وخرج عمرو بن خالد الصيداوي وهكذا تقاطر الابطال على ساحة الكرامة والشهادة في طف كربلاء، يواجهون المئات، فيبارزون ويجاهدون، ثم يُستشهدون رضوان الله تعالى عليهم اجمعين، فيأتي اليهم سيّد شباب اهل الجنة يؤبنهم، ويتلو عليهم: «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا».
حتى تقدم زياد بن عريب (ابو عمرة) الى المبارزة ليحظى بشرف الشهادة وسعادتها، وشرف زيارة الامام المهديّ المنتظر له ولأصحابه، حيث خاطبهم صلوات الله عليه وعجل فرجه، بقوله: السلام عليكم يا خير أنصار، السلام عليكم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ، بواكم الله مبوأ الابرار. اشهد لقد كشف الله لكم الغطاء، ومهد لكم الوطاء، واجزل لكم العطاء، وكنتم عن الحق غير بطاء، وانتم لنا فرطاء، ونحن لكم خلطاء، في دار البقاء.