ونوارس لبسوا القلوب سوابغاً
في الروع عند الغارة الملحاح
كأس المنايا الحمر في أفواههم
في الله اعذب من كؤوس الراح
من كل ابيض يستضاء بوجهه
وبسيفه في كل ليل كفاح
أحسابهم، ووجوههم، وسيوفهم
أصباحها يغنى عن المصباح
يتسابقون الى الوغى وكأنهم
سيل تدفق في بطون بطاح
قد تاجروا رب السما بنفوسهم
فحظوا لديه بأغنم الارباح
فسقى مثاويهم بعرصة كربلا
رب السماء بوابل سحساح
شاءت الارادة الالهية الرحيمة، والمشيئة الربانية الحكيمة، أن يكون لولي الله وإمام الحق، وحجة الله على الخلق، أبي عبد الله الحسين (صلوات الله عليه)، أنصار مخلصون أوفياء، اصحاب همم عالية تُبلغ بهم وصل الالتحاق بركب سيد الشهداء، فاجتمعوا في الركب الحسيني من كحل حدب وصوب، ومن كل منجدر وقبيلة، ليتشرفوا بصحبة سيد شباب اهل الجنة، والتضحية بين يديه وهو سبط النبي وريحانته وحبيبه، والامام المنصوص عليه من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وكان من الملتحقين بأبي عبد الله الحسين (سلام الله عليه) رجل من نسل سعد العشيرة المذحجيّ، ومذحج من كهلان من القحطانية عرب الجنوب في اليمن.
وذلك هو عائذ بن مجمع بن عبد الله العائذي، الذي ورث الولاء لاهل البيت عن ابيه مجمع، ومجمع هذا كان وثيق الصلة بعمرو بن خالد الصيداوي، والصيداوي هذا كان رجلاً شريفاً في الكوفة، مخلص الولاء لآل الرسول، قام مع مسلم بن عقيل في نهضته الشريفة، حتى اذا غدر القوم بمسلم وخانوه لجأ عمرو الصيداوي الى الاختفاء موقتاً، ليراقب الاحداث عن كثب، لكنه لما سمع بشهادة قيس بن مسهر الصيداوي على يد الطاغية عبيد الله بن زياد، لم يجد بداً من الخروج من الكوفة للالتقاء بالامام الحسين (عليه السلام) وإخباره بمجريات الوقائع في اهل الكوفة.
فخرج عمرو بن خالد هو ومعه سعد مولاه، والتحق به مجمع بن عبد اله العائذي وابه عائذ، كما انظم اليهم جنادة بن الحارث المذحجي السلماني ومولاه واضح التركي، آخذين معهم دليلاً اسمه (الطرماح بن عدي الطائي)، فخرج بهم هذا الدليل عن طريق متنكبة، وسار فيهم سيراً عنيفاً؛ خوفاً منان يُطوقه رجال عبيد الله بن زياد، لاسيما وأن الطرق كانت مرصودة.
سار الركب المؤمن باتجاه قبلة المؤمنين ابي عبد الله الحسين (سلام الله عليه)، فيما كان الامام الحسين متجهاً نحو الكوفة، فكان الملتقى في (عذيب الهجانات)، رمى الطرماح ببصره من بعيد، فاذا هو يرى نور الله وجلاله، ابا عبد الله الحسين، فأنشأ يرتجز في انتشاء من بلغ مناه؛ مخاطباً ناقته:
يا ناقتي لا تذعري من رجزي
وامضي بنا قبل طلوع الفجر
بخير ركبان وخير سفرٍ
حتى تحلي بكريم النجر
الماجد الحر رحيب الصدر
اتى به الله لخير أمر
أيد حسيناً سيدي بالنصر
على الطغاة من بغايا الكفر
فانتهوا الى الامام الحسين (عليه السلام) وهو بعذيب الهجانات، فسلموا عليه وانشدوا بين يديه ابياتاً، فقال ابو عبد الله الحسين: (أم والله، اني لارجو ان يكون خيراً ما اراد الله بنا، قُتلنا أو ظفرنا).
في تلك الساعة يُقبل الحرُّ بن يزيد الرياحي بجيشه يُريد ان يحتجز المنضمين الى ركب الامام الحسين (عليه السلام)، وهم عمرو بن خالد الصيداوي ومولاه سعد، ومجمع بن عبد الله العائذي وبنه عائذ، وجنادة بن الحارث المذحجي وواضح التركي.
فوقف الامام الحسين دون ذلك، قائلاً للحرّ: إن هؤلاء النفر من اهل الكوفة، وأنا حابسهم او رادّهم.
وفي رواية ان الحر قال للحسين (عليه السلام): ان عؤلاء النفر ليسوا ممن اقبلوا معك.
فأجابه ابو عبد الله: انما هم انصاري، وهم بمنزلة من جاء معي.
وفي رواية انه (سلام الله عليه) قال للحرّ: انما هؤلاء أنصاري وأعواني، وقد كنت أعطيتني ألا ّ تتعرض لي بشيء ٍ حتى يأتيك كتاب ابن زياد.
قال الحرّ: اجل، لكن هؤلاء لم يأتوا معك.
قال الامام الحسين للحر: هم اصحابي، وهم بمنزلة من جاء معي، فإن تمّمت على ما كان بيني وبينك وإلا ّ ناجزتك! فكفّ الحرّ عنهم.
ولما كان يوم عاشوراء، والتحم المعسكران وكان القتال بين أصحاب الامام الحسين (عليه السلام) وعسكر عمر بن سعد، شدّ عمرو بن خالد الصيداوي وسعد مولاه، وجنادة بن الحارث وواضح التركي مولى ابيه، ومجمع بن عبد الله العائذي وابنه عائذ بن مجمع، شدّوا جميعاً على اعداء الله مقدمين بأسيافهم في اول، فلما توغلوا يقاتلون تعطف القوم عليهم وقطعوا عن الحسين وأصحابه، وأخذوا يحوزونهم نحو اوساط عسكر عمر بن سعد، فلما رأى الامام الحسين حالهم ندب اخاه العباس (عليه السلام) لينقذهم، فنهد اليهم، وحمل على القوم وحده يضرب في اعداء الله بسيفه قدماً حتى خلص الى عمرو بن خالد الصيداوي وأصحابه فاستنقذهم، فعادوا معه الى عسكر الحسين وقد جُرحوا جميعاً.
وفي اثناء الطريق والعباس (عليه السلام) عائد بهم، رأى الصيداوي وأصحابه أن جماعة من عسكر عمر بن سعد يلاحقونهم مرّة اخرى، فأبوا أن يفرّوا، فانسلوا عن طريق العودة، ورجعوا يشُدّون على القوم بأسيافهم ـ مع ما بهم من الجراح ـ شدّة واحدة، وقاتلوا حتى استشهدوا جميعاً في مكان واحد.
رضوان الله تعالى عليهم وسلامه، وسلامنا نحن عليهم بعد سلامنا على الحسين، وآل الحسين، قائلين: السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى اولاد الحسين، وعلى اصحاب الحسين.