بسم الله، والحمد لله، وأفضل صلوات الله على حبيبه رسول الله، وعلى آله الهداة أولياء الله.
كان من نتائج الامتحان الكبير في عاشوراء الحسين سلام الله عليه، أن انكشفت كوامن الناس، شرارها وخيارها، حقها وباطلها، فضائلها ورذائلها... فإذا أفرز جيش عبيد الله بن زياد كوامن الحقد والجاهلية ومساوئ الاخلاق وضلالات الاعتقاد، فقد أشرقت في جيش الامام الحسين ـ ببركة الحسين ـ أنوار الهداية والتقوى ونفحات العبودية والطاعة لله تعالى، وخصال الشهامة والشجاعة والغيرة والفتوّة... حتى صدعت حناجرهم الايمانية بالرَّجز الحماسيّ، ودوّت صيحاتهم البطولية في ساحة طفِّ كربلاء مهيبة شامخة.
وكان أحد أصحاب سيّد شباب اهل الجنة، رجلا ً يُدعى يزيد بن مُغفل المذحجيّ الجعفيّ، وهو صحابي أدرك النبي صلى الله عليه وآله، وشهد معركة القادسية، وكان بعد ذلك أحد الشجعان من شعراء الشيعة المجيدين.
وقد تشرف يزيد بن مغفل أن يكون أحد أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، فيُحارب الى جنبه في "واقعة صفين"، ويكون مبعوثا عن الامام علي عليه السلام في حرب الخوارج.
ويستمر يزيد بن مغفل الجحفي على نهج ال الرسول صلى الله عليه وعليهم، فينضم الى ركب الامام الحسين عليه السلام عند مجيئه الى مكة، حتى اذا بلغ المسير الى احد منازل الطريق، وهو "قصر بني مقاتل"، رأى الامام الحسين فسطاسا مضروبا ورمحا مركوزا وفرسا واقفا، فسال عنه فقيل له: هو لعبيد الله بن الحر الجعفي.
فبعث اليه يزيد بن مغفل الجعفي والحجاج بن مسروق، فأتياه وقالا له: ان ابا عبد الله يدعوك، فسأل عما وراء ذلك، فأجابه الحجاج: هدية اليك وكرامة ان قبلتها، هذا الحسين يدعوك الى نصرته، فان قاتلت، بين يديه اجرت، وان قتلت استشهدت. فاعتذر عبيد الله بمعاذير ابلغها الحجاج بن مسروق ويزيد بن مغفل الى الامام الحسين.
قال المؤرخ المعروف ابو مخنف: فأرسل اليه، فلما حضر عبيد الله بن الحر بين يديه، قال له الحسين عليه السلام: يا هذا! هل لك من توبة تمحص عنك الذنوب تنصرنا اهل البيت.
قال عبيد الله: ما خرجت من الكوفة الا مخافة ان اقاتلك بين يدي ابن زياد، ولكن خذ فرسي هذه... وسيفي هذا القاطع ورمحي، واعف عني.
فأجابه الامام عليه السلام: اذا بخلت علينا بنفسك، فلا حاجة لنا بمالك... ثم تلا قوله تعالى: «وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا» (الكهف، 51)، ولقد سمعت جدي رسول الله(ص) يقول: من سمع واعيتنا اهل البيت ولم ينصرنا اكبه الله على منخريه في النار يوم القيامة.
وفي رواية: فو الله لا يسمع واعيتنا احد ولا ينصرنا، الا اكبه الله في نار جهنم.
ثم خرج الامام الحسين من عنده، ومعه صاحباه الحجاج الجعفي، ويزيد الجعفي.
وفي يوم عاشوراء... وعلى ارض كربلاء، دعا الامام الحسين صلوات الله عليه براحلته فركبها، ثم نادى بصوت عال يسمعه جلهم... فكانت منه عليه السلام خطب ونداءات، بين نصح وتذكير، وتأنيب وتوبيخ... كان فيها قوله: ايها الناس، انسبوني من انا، ثم ارجعوني الى انفسكم وعاتبوها، وانظروا هل يحل لكم قتلي ولنتهاك حرمتي؟! ألست ابن بنت نبيكم وابن وصيه... او لم يبلغكم قول رسول الله لي ولاخي : "هذان سيدا شباب اهل الجنة"؟! ويحكم! اتطلبوني بقتيل منكم قتلته، او مال لكم استهلكته، او بقصاص جراحة؟!
فأخذوا لا يكلمونه، فنادى عليه السلام: يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن ابجر، ويا قيس بن الاشعث، ويا زيد بن الحارث! ألم تكتبوا الي ان اقدم؛ قد اينعت الثمار واخضر الجناب، وانما تقدم على جند لك مجندة؟!
فأنكروا وقالوا: لم نفعل!
فقال عليه السلام: سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم، فقال له قيس بن الاشعث راس النفاق: او لاتزال على حكم ابن عمك؟!
فأجابه الحسين سلام الله عليه: انت اخو اخيك... لا والله لا اعطيهم بيدي اعطاء الذليل، ولا افر فرار العبيد... واقبلوا يزحفون نحوه لقتله!
هكذا يلقي الامام الحسين عليه السلام على الجميع حججه البالغة، فيسقط كل عذر لعاذر، وقد اخذت كلماته الحقانية تدب في نفوس اعدائه حيرة بعد كشف الحقائق الساطعة، لكنهم كابروا واصروا. بينما اخذت كلمات الامام الحسين طريقها الى قلوب اصحابه، فخلقت فيهم روحية عالية، ومعنوية رفيعة، جعلتهم ـ ومنهم يزيد بم مُغفل ـ يزدادون ايماناً وثقة بصحة موقفهم، وحُسن إقبالهم على التضحية والفداء... حتى الشهادة، وصدق الله تبارك وتعالى حيث قال: «وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ» (سورة التوبة، 124ـ 125)
وبان النقص في اصحاب الامام الحسين عليه السلام بعد الحملة الاولى، فأخذ الرجل بعد الرجل يتقاطرون فيستأذنون سيّدهم أبا عبد الله الحسين، كلّ يقول له: السلام عليك يا ابن رسول الله... يطلبون الاذن لهم بالمبارزة والجهاد والفداء حتى الشهادة، فيقول عليه السلام لكل منهم: وعليك السلام، ونحن خلفك... فإذا استشهد أي منهم وقف عليه السلام عند رأسه وقرأ قوله تعالى: «فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ».
حتى تقدم يزيد بن مغفل الجُعفيّ، فأستأذن الامام الحسين عليه السلام فأذن له، فدخل ساحة الطف وهو يرتجز ويقول:
أنا يزيد وأنا ابن مُغفل
وفي يميني نصلُ سيف ٍمُصقل
أعلو به الهامات وسط القسطل
عن الحسين الماجد المفضَّل ِ
ثم أخذ يصول ويجول... يقاتل أعداء الله قتالاً لم يُر مثله، حتى قتل جماعة منه، ثم تعطفوا عليه فقتلوه رضوان الله عليه.
فسلام عليه شهيداً باراً
بين يدي سيّد الشهداء
وسلام عليه مرفوعاً
شأنه في الارض والسماء
وسلام عليه محشوراً
مع أصحاب الحسين الاوفياء