الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والسلام على خاتم النبيين وأشرف المرسلين، المصطفى الهادي الامين، وعلى آله الهداة الميامين.
من خلال رجال ٍ يُعرف معنى التوفيق، فرجل مثل جون، يُباع عبداً في سوق عكاظ، كيف يصبح شهيداً بين يديّ سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين سلام الله عليه؟! وإنسان مُكبَّل لم يذق طعم الحرية إلا بعد سنين بين كبراء المشركين، كيف يُتصوَّر أن يكون موضع اجلال أهل البيت النبويّ الشريف؟! وشخص يُحرم الكرامة الانسانية، كيف يوفق أن يعيش في ظلّ ابي ذر الغفاري، ثم أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، ثم الامام الحسن المجتبى عليه السلام، حتى يلتحق بسيد شباب اهل الجنة، الحسين بن عليّ ملتحقا ً بركبه الى كربلاء، ثم بركبه الى الجنان ودائم النَّعماء؟!
إنه الاخلاص، وحبُّ آل الله عليهم السلام، وإنها دموع الولاء ذرفها على اولياء الله يوم استشهدوا، وإنه التسليم والطاعة لهم، فوُفق دون الكثير؛ ليكون ليكون مناصراً لإمام زمانه في ساعة المحنة، ومرجّحاً للقتل على النجاة بالنفس وقد أذن له الحسين صلوات الله عليه إذنا ً خاصّا ً بعد الاذن العامّ لجميع الاصحاب.
في العاشر من المحرّم، نفد صبر عمر بن سعد من خطب الأمام الحسين عليه السلام وقد رآها توثر في عسكره، فخشي أن تهيمن خُطب أبي عبد الله على جيش عبيد الله بن زياد، فتعجّل الامر بأن رمى عسكر الحسين بسهم يُنذر ببدء القتال قائلاً: اشهدوا لي عند الامير (أي ابن زياد) أنّي أولّ من رمى. ثمّ رمى الناس، فلم يبق احد من أصحاب الامام الحسين عليه السلام إلا ّ أصابه سهم، فتساقط الكثير جرحى، فالتفت إليهم سيّد الشهداء يخاطبهم: قوموا رحمكم الله الى الموت الذي لابدّ منه؛ فإنّ هذه السهام رُسُل القوم اليكم.
فحمل أصحاب الامام الحسين حملة رجل ٍ واحد، واقتتلوا على قلة عددهم - وهم عشرات - يواجهون جيشا ً جرّاراً في عشرات الآلاف... فما انجلت الغُبرة إلا ّ وخمسون شهيداً من أصحاب الامام الحسين مُطرَّحين على رمال طفّ كربلاء!
لقد بان النقص في أصحاب الامام الحسين عليه السلام، فأخذ الباقون يبرزون واحداً واحداً، أو اثنين اثنين وخلال ذلك برز العبد الاسود (جونُ بنُ حويّ)، وهو يرتجز ويقول:
كيف ترى الفُجّار ضرب الاسود
بالمشرفيّ ِ القاطع المهنَّد ِ؟!
بالسيف صلتاً عن بني محمّد
أذبُّ عنهم باللسان ِ واليد ِ
أرجو بذاك الفوز عند المورد
من الاله الاحد ِ المُوحَّد ِ
إذْ لا شفيع عنده كأحمد ِ
وتقدم (جون)، فأحاط به الاعداء من كلّ جانب، فلم يُهن ذلك عزيمته، بل اندفع يقاتل قتال الابطال حتى قتل منهم خمسة وعشرين رجلاً، وقيل: اكثر من ذلك وقد أضناه الظمأ، وأجهدته المبارزة، وقد تعطّف عليه عشرات كالافواج، فحانت منه ضربة لئيمة كبا عنده فرسه، فوقع جون ـ وهو رجل كبير السنّ ـ على وجهه، فما كان من سيوف المنافقين ورماح الغادرين إلا ّ ان تنفذ في جسده، لينال مرضاة الله تعالى بهذه الشهادة المُشرِّفة، وليحظى بأقبال الامام الحسين عليه، فيقف عنده، ويدعو له من قلب صاحب رأفة وحنان: اللهمَّ بيّضْ وجهه، وطيّبْ ريحه، واحشره مع محمّد ٍ صلى الله عليه وآله، وعرّفْ بينه وبين آل محمدٍ عليه السلام.
أجل وماذا يُظنُّ بدعاء مترقرق ٍ من صدر الاسرار الالهية، ومن لسان ٍ زاك ٍ لإمام هو سيّد شباب اهل الجنة؟! أيُظنُّ غير القبول والاستجابة؟!
كلاّ فقد شهد الرواة أنّ كلّ من مرّ بالمعركة بعد انتهائها، كان يشُمّ من (جون) رائحة أذكى وأزكى من المسْك.
وتلك حقيقة قول الحسين صلوات الله عليه (طيّبْ ريحه). وقد طيب الله تعالى ريح تلك الابدان الزاكية، كما طيّب أرواحها، وكان لجون شأن خاصّ، فهو احد من رثاهم الحسين سلام الله عليه ودعا لهم، وهو أحد من مشى إليهم الحسين وأقبل إليهم، فما سقط جون حتى اسرع إليه أبو عبد الله فأبّنه وحزن عليه، وأيُّ شرف ٍ ذلك لجون. ثم انّ الامام المهدي عجلّ الله فرجه الشريف يزوره في جملة شهداء كربلاء، وفي زيارته يخصّه بهذا السلام: (السلام على جون بن حويّ، مولى ابي ذرّ الغفاريّ).
ثم يكون لجون ـ بعد ذلك الرقّ ـ شأن عظيم، حين يكون قبره مع الشهداء الى جانب قبر سيّد الشهداء ابي عبد الله الحسين عليه السلام، يُزار ويُسلم عليه بزيارات ائمة اهل البيت وسلامهم... ويُكتب عنه الكثير في المقاتل والسير، وكتب الرجال، ويُرثى في النثر والشعر، وكان فيما قيل فيه هذه الابيات للشيخ محمدّ السماوي ّ:
خليليّ ماذا في ثرى الطفِّ فانظرا
أجونة ُ طيب ٍ تبعث المسْك أم جونَ؟!
ومن ذا الذي يدعو الحسين لأجله
أذلك جون ... أم قرابته عَونُ ؟!
لئن كان عبدا ً قبلها فلقد زكا الـنجارُ
وطاب الريح وازْدهَرََ اللونُ
وأخيراً مما نقله الشهيد السيّد جواد شبر صاحب موسوعة (أدب الطفّ) أنّ هناك طائفة من الزنوج في امريكا، تُقيم كلّ عام في شهر محرّم الحرام حفلاً تأبينياً إحياء ً لذكرى (جون) شهيد كربلاء، مفتخرين انه زنجياً خرج مع أبي الاحرار، وجاهد بلسانه وسيفه، حتى امتزج دمه الاسود مع دماء الاحرار في معرّف الطفّ العظمى، وكأنه أولئك الزنوج يستنشقون المسك الفوّاح من جسد صاحبهم (جون)… وكأنّ قبر جون أصبح في قلب كلِّ زنْجيّ ٍ أبيّ يطالب بالحرية والكرامة.