«السلام عليكم يا خير انصار، السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، بوَّأكم الله مبوأ الابرار».
مع (مسلم بن عوسجة) مرة اخرى، هذا الصحابي الجليل الذي تشرف برؤيته للنبي (صلى الله عليه وآله) والاخذ عنه، وموالاته وموالاة اهل بيته، فكان صادقا في ايمانه واسلامه، ووفيا في اعتقاداته ومواقفه.
كان مسلم بن عوسجة مع الامام الحسين عليه السلام يوم وافت الانباء عن ردة اهل الكوفة وخذلانها مسلم بن عقيل، فتوقف عليه السلام يعلن خبر الفاجعة، وخبر التخيير... حين قال لاصحابه:
اما بعد، فانه اتانا خبرٌ فظيع: قتل مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة، وعبد الله بن يقطر.. فمن احب منكم الانصراف فلينصرف، ليس عليه منا ذمام.
فتفرق البعض عنه، اخذين شمالا ويمينا، حتى بقي اصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة. وبقي ابو عبد الله الحسين سلام الله عليه يُصفيّ من جاؤوا معه ورافقوه والتحقوا به، ليحظى بالصفوة الذين سيقدم بهم على الله تبارك وتعالى في اسمى الشهادات، فاجتبى الاخيار الابرار الاوفياء، وصارح الجميع انه راحل الى الله عز وجل وعلا وقادم على القتل، يصور لهم المشهد الذي سيكون بعد ايام: «كأني باوصالي تقطعها عُسلانُ الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن مني اكراشاً جُوافا، واجربة سغيا، لا محيص عن يوم خُط ّ بالقلم».
هذا من جهة، ومن جهة اخرى قال لاصحابه واهل بيته: الا ومن كان فينا باذلا مهجته، مُوطنا على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا.
وكتب صلوات الله عليه: (من لحق بنا منكم استشهد، ومن تخلف لم يبلغ الفتح).
ومن جهة ثالثة ترك لهم الخيار، مكررا عليهم: (من احب منكم الانصراف فلينصرف).
فابى اصحاب الغيرة والنجدة والشهامة، واهل الوفاء والايمان والتقوى، وكان فيهم مسلم بن عوسجة، وكلمته قاطعة: «اما والله لاأفارقك».
وفي كربلاء... تجلت واتضحت الفضائل والرذائل؛ اذ كانت المحك لكل ادعاء، والمعرف لكل المسلمين... فسمت المكارم في معسكر الامام الحسين عليه السلام، وظهرت المخازي في معسكر عبيد الله بن زياد، حتى اقبل احد الاراذل يبغي الهجوم على أصحاب الحسين مبتدئا ً بالقتال، فلم يستطع؛ لان الحسين سلام الله عليه كان قد حمى جانباً من عسكره من جهة الخيام بخندق ونار أشعلها فيها، فرجع الباغي ونادى: يا حسين، استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة؟
فقال الامام الحسين: من هذا؟ كأنه شمر بن ذي الجوشن.
قالوا: نعم أصلحك الله، هو هو.
فأجابه عليه السلام يُذكّره بخسّة ِ أصله: يا ابن راعية المعزى، أنت أولى بها صليّا.
فنهضت الغيرة بمسلم بن عوسجة لم يصبر على شمر ٍ وهو يسمعه يتجاسر على المقام الشامخ للامام الحسين عليه السلام، فترجى مولاه:
يا ابن رسول الله جُعلت فِداك، ألا ارميه بسهم، فأنه قد امكنني، وليس يسقط مني سهم، فالفاسق هذا من أعظم الجبّارين.
فأبى عليه السلام وقال له: (لا ترمه؛ فإنيّ أكره أن أبدأهم بقتال).
كتب ابن ابي الحديد في (شرح نهج البلاغة) يقول: قيل لرجل كان شهد يوم الطف مع عمر بن سعد: ويحك! أقتلتم ذرية رسول الله؟!
فقال: لوشهدتم ما شهدنا، لفعلتم ما فعلنا! ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها كأسود ضارية، تحطم الفرسان يميناً وشمالاً، وتُلقي بأنفسها على الموت، لا تقبل الامان (اي الاستسلام والمداهنة)، ولا ترغب في المال... فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها! فما كُنّا فاعلين لا أ ُمَّ لكم؟!
وكان أحد أولئك الاسود (مسلم بن عوسجة)، حيث ذكرت كتب المقاتل أنه خرج الى ساحة المعركة ممتلئا ً شجاعة ً وبسالة ً وغيرة، وهو يرتجز ويقول:
إن تسألوا عنيّ فإنيّ ذو لبَدْ
من فرع قوم من ذرى بني اسد
فمن بغاني حائد عن الرشَدْ
وكافر بدين جبّار ٍ صمد ْ
وتابعه نافع بن هلال الجمليّ يرتجز ويحميه، فأخذ نافع ومسلم بن عوسجة يجولان في ميمنة عسكر ابن سعد، فصاح عمرو بن الحجاج بأصحاب عمر بن سعد: ويلكم يا حمقى مهلا ً! أتدرون من تُقاتلون؟! انما تقاتلون فرسان المصر وأهل البصائر، وقوما ً مستميتين، لا يبرزَنّ أحد منكم إلا قتلوه على قلتهم.. والله لو لم ترموهم إلا ّ بالحجارة لقتلتموهم.
فقال له عمر بن سعد: صدقت الرأي مارأيت.
فأرسل في العسكر من يعزم عليه: ألا ّ يُبارز رجل منكم، فلو خرجتم وُحدانا ً لأتوا عليكم مبارزة ً.
ثم حمل عمرو بن الحجاج نحو الفرات فأقتتلوا ساعة، وفيها قاتل مسلم بن عوسجة، فشد عليه: مسلم بن عبد الله الضباليّ، وعبيد الله بن خشكارة البجليّ. فثارت - لشدّة الجلاد - غبرة شديدة ماٌنجلت إلا ومسلم بن عوسجة صريع على الارض. فشرّفه الامام الحسين بأن مشى اليه بنفسه الطيبة الكريمة، وأنفاسه الحزينة الحميمة، ومعه حبيب ابن مظاهر، فقال له الحسين: رحمك الله يا مسلم..
ومسلم به رمق، ثم دنا حبيب وقال له: عَزّ عليّ مصرعك يا مسلم، ابشر بالجنة.
فأجابه مسلم بصوت ٍ ضعيف وهو يلتقط انفاسه الاخيرة: بشرك الله بخير.
فقال له حبيب: لو لم أعلم أني في الاثر، لأحببت أن توصيَ إليّ بما أهمّك.
فقال له مسلم: أُصيك بهذا ــ وأشار الى الحسين ــ أن تموت دونه.
فقال حبيب: أفعل وربّ الكعبة. وفاضت روحه الطيبة وهو بين الحبيب، وحبيب.
وشرف آخر يناله الشهيد مسلم بن عوسجة، يوم خصّه الامام المهدي صلوات الله عليه بسلامه عليه في زيارة الناحية المقدسة، حيث قال له يخاطبه: (وكنت أول من شرى نفسه، وأول شهيد من شهداء الله قضى نحبه، ففزت ورب الكعبة، وشكر الله لك استقدامك، ومواساتك امامك، إذ مشى اليك وأنت صريع، فقال: يرحمك الله يا مسلم بن عوسجة، وقرأ «فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً».
لعن الله المشتركين في قتلك: عبد الله الضُّبابيّ، وعبد الله بن خشكارة البجليّ، ومسلم بن عبد الله الضبابيّ).